ليلة السبت الماضي، اجتمعت معاني الوفاء والتفاني والعطاء على صعيد واحد؛ ففيها ودعت جموع غفيرة من زوار بيت الله الحرام، يتقدمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، الذي فقدته المملكة بعد رحلة عطاء ثرية، وفيها أيضا اتجهت الأنظار إلى المستقبل، فدشن خادم الحرمين الشريفين خمسة مشروعات عملاقة لتوسعة الحرم المكي الشريف، تأكيدا لعناية المملكة المستمرة ببيت الله الحرام، وكذا حرص حكومتها على توفير سبل الراحة لضيوف الرحمن.

كان مشهد وداع أمير الديبلوماسية العربية معبرا وبصدق عن المكانة التي حظي بها الراحل الكبير في قلوب السعوديين والعرب، جراء مسيرته الحافلة في الدفاع عن حقوق الأمة ومصالحها. وكم كان رائعا أن تكون الصلاة على الفيصل في بيت الله الحرام وفي ليلة مباركة وبحضرة كبار العرب والمسلمين، فضلا عن ملايين المعتمرين والزوار الذين شاركوا في الدعاء له، معبرين بذلك عن قناعتهم بأن الراحل الكبير كان ممثلا لهم جميعا لا عن الشعب السعودي فقط.

وأحسب أن ما أحاط برحيل الفيصل من مشاعر شعبية ورسمية دافئة فياضة لا يتصل فحسب بالجوانب الشخصية المبهرة التي تمتع بها الرجل، ولكنها عبرت في جانب رئيس منها عن تقدير العالم للسياسة السعودية التي كان –رحمه الله– عنوانا مشرفا لها، سواء فيما يتصل بقضايا السلام العالمي والذود عن حقوق الأمة، أو العمل الصادق المتواصل من أجل جمع كلمة العرب والمسلمين في مواجهة التحديات الكبرى التي توالت عليهم بامتداد 40 عاما.

أما مشاريع التوسعة التي دشنها الملك سلمان في الليلة ذاتها، فجسدت أمرين بارزين: أولهما، أن المملكة ستبقى وفية لعهدها مع الله تعالى، ثم مع المسلمين بأن تقدم كل إمكاناتها لخدمة الإسلام ورفع لوائه في مواجهة المتعصبين والمتطرفين ودعاة الفتنة والفرقة. وآخرهما: أن هذه الخدمة تحظى لدى كل الملوك الذين تتابعوا على حكم هذا البلد الطيب بأولوية في الاهتمام والتنفيذ، فإذا كان الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ هو من بدأ المشروع الأول للتوسعة، فإن ولديه الملكين سعود وفيصل ـرحمهما الله– هما من قاما بإتمامه، ثم جاء الملك خالد –رحمه الله- فرعى توسعة الساحات الشرقية، ليقوم خليفته الملك فهد -رحمه الله- بتوسعة المسجد من الجانب الغربي، وصولا إلى توسعة المسعى التي تمت في عهد الملك عبدالله -يرحمه الله- الذي أمر بتوسعة ثالثة كبرى، هي التي تستكمل في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.

إن هذا التواصل في خدمة الإسلام والمسلمين يحمل في أعماقه رسالة جوهرية، مفادها أن الدولة التي تأسست على شهادة التوحيد وبقيت وفية لها في كل العهود ستبقى –بعون الله تعالى– عصية على المؤامرات التي تحاك ضدها، يعينها في ذلك سلامة الرؤية ووحدة الشعب، فضلا عن قدرتها الدائمة على اختيار الطريق الصحيح، ثم المضي فيه بجسارة وتصميم وعزم الرجال.