من كل دول الربيع العربي ظلت ليبيا في مؤخرة قائمة الاهتمام، باستثناء اللحظة التاريخية التي تصدرت فيها المشهد إبان الصراع لإسقاط حكم العقيد معمر القذافي، وللجغرافيا السياسية الليبية دور في تهميش أهميتها مقارنة بدول أخرى مثل سورية والعراق.

ما جرى في ليبيا على مدى السنوات القليلة الماضية وما يجري له أهمية بالغة وإن كانت غير ظاهرة، وهو ما يحتم إعادة النظر إلى ملف ليبيا بشكل كبير وإعادتها إلى بؤرة الاهتمام العربي.

تمثل ليبيا حالة فريدة، فهي الدولة الوحيدة من دول الربيع العربي التي لا تشهد صراعا طائفيا، وليس بها خطوط الانقسام المذهبي أو العرقي كما بقية الدول العربية، فحتى مناطق الطوارق وقبائل التبو في الجنوب غير متقاطعة مع مناطق العرب بشكل يوجد صراعا جغرافيا، وهو ما يجعل مطالبهم السياسية منفصلة نوعا ما عن مشكلة العرب شمالا، وإن كانت جزءا من المعضلة الليبية الكبرى.

ومع هذه الحالة الفريدة فقد شهدت ليبيا أحد أسوأ فقرات الصراع الدموي الذي أنتجه الربيع العربي، وللأسف تحمل ليبيا اليوم قطرة من كل بحار الشرور التي تشهدها منطقتنا اليائسة.

في ليبيا نموذج الإرهاب المتمثل بوجود القاعدة و"داعش"، وبها نموذج الصراع الإسلاموي/الليبرالي، وبها نموذج صراع بقايا الدولة القديمة مقابل الدولة الجديدة، وبها نموذج الصراع القائم على الغنائم والمصالح الاقتصادية بين الفئات المتصارعة، وبها نموذج تدخلات الأطراف الخارجية الفج، وبها نموذج المطالبات بالانفصال بين المناطق الجغرافية المتباينة، والأهم من هذا كله بها نموذج الحكومة الضعيفة وإن كانت قائمة، ونموذج الانفلات السياسي/الأمني الشامل.

الانفلات والفوضى اللذان تشهدهما ليبيا أصبحت بمنزلة تمثيل حقيقي على أرض الواقع لنظرية فيلسوف القرن السابع عشر الإنجليزي توماس هوبز في كتابه الشهير "اللوثيان" (Leviathan) عما أسماه "حالة الطبيعة" (state of nature) المتمثلة في صراع "الكل ضد الكل" والفوضى والانفلات حيث الطبيعة البشرية محكومة أساسا بالشر ما لم توجد قوة خارجية تمنعهم عن ذلك وتنظم حياة الناس في المجتمع.

هوبز تأثر بنظريته إبان فترة الحرب الأهلية الإنجليزية وأهوالها وخرج برؤية قوامها الأساس أهمية إيجاد سلطة "لوثيان" تحتكر القوة في المجتمع وتبسط الاستقرار وتمنع الانفلات وهو ما يمثل شرعيتها.

اللوثيان، وهو كائن/وحش خرافي ورد ذكره في التوراة، الذي ارتأى هوبز أهميته كقوة في المجتمع تجبر كل القوى الأخرى على الخضوع كسبيل للخروج من "حالة الطبيعة" التي وصفها نحو حالة التطور البشري، كان تعبيرا عن فلسفته السياسية الأعم حول الدولة وعقدها الاجتماعي.

حالة الطبيعة التي وصفها هوبز لا تختلف كثيرا عن حالة الطبيعة في بعض دول منطقتنا كما هو ماثل في ليبيا اليوم، والخروج بلوثيان عربي سيعني أننا أمام أمد طويل من التجربة الحضارية سيتخللها كثير من الصراع.

وإذا كانت الفلسفة السياسية تجاوزت هذه الأمور منذ قرون، فإن الأسس الفكرية لا تزال حاضرة. نحن أمام معضلة حقيقية تتمثل في مفهوم الدولة والشرعية، جزء من تقاطعها هو صراع فكري بين تيار إسلاموي ومدني، ولكن هذا الصراع ليس إلا جزءا من كل يتعلق بمنطق الدولة نفسها. تحت سطح صراع السلطة في ليبيا يكمن الصراع الأهم بين أناس لا يرون في ظل هذا الانفلات والفوضى معنى لوجود الدولة ككيان يحقق قبل أي شيء مصلحتهم المشتركة كبشر.

الميليشيات الليبية المنفلتة اليوم مثال صارخ على صراع بدائي، وأبسط مثال، الصراع الذي قام بين بعض الميليشيات على التحكم في مطار ليبيا وانتهى بتدميره فقط من أجل احتكار أموال التهريب، وإن تم إلباس الصراع بلباس التيارات السياسية.

تتنازع ليبيا اليوم تحديات عدة خطوطها العامة كما يلي:

تحد سياسي: يتمثل في معالجة الانقسام الداخلي القائم وإيجاد توافق إقليمي ودولي، وتحد أمني: يتمثل في مواجهة الإرهاب وإنهاء الفوضى والانفلات، وتحد اقتصادي: يتمثل في إطلاق قدراتها النفطية لخدمة التنمية، ووتحد اجتماعي: يتمثل في إنهاء صراع التيارات الفكري.

ولأن هذه التحديات هي في جزء منها تمثل تحديات بقية الدول كسورية واليمن والعراق "إلى حد ما" فإن معالجة الوضع الليبي آن الأوان أن يأخذ حيزه من الاهتمام أكثر، خصوصا من المملكة، إذ إنها غابت عن المشهد الليبي وعن إطلاق روح المبادرة والضغط فيه.

قد يبدو هذا الأمر مستغربا في ظل التحديات التي تواجهها المملكة في محيطها الاستراتيجي في اليمن وسورية، لكن من شأن معالجة الوضع الليبي "ولو جزئيا" أن يفتح باب الحل في المناطق الأكثر سخونة، فطريق الحل في سورية قد يبدأ اليوم من ليبيا، وإذا ما نجحنا في إيجاد توافق دولي حول ليبيا، فإن هذا الأمر ربما يمهد لإيجاد توافق حول سورية.

ورغم تباين كلا الملفين بشكل كبير، خصوصا لمن يغوص في تفاصيلهما، إلا أن الأساسيات تتشابه، فنحن نبحث في نهاية المطاف عن بناء دولة جديدة في سورية، وهو أيضا ما نبحث عنه في ليبيا، وإذا لم نستطع إيجاده في ليبيا فعلى الأرجح لن نستطيع ذلك في سورية. والتحدي في كلاهما هو: كيف يمكن لنا الخروج من "حالة الطبيعة" التي أفرزها الربيع العربي نحو لوثيان عربي مغاير.