"اهتزت غزة بشدة نتيجة الأحداث التي عصفت بها في صيف عام 2004، إذ إن حجم الدمار الذي أصابها كان كبيرا بشكل لم يسبق له مثيل. ومما يدل على ذلك مقتل 2251 فلسطينيا، منهم 1462 مدنيا (299 امرأة و551 طفلا). كما أصيب وجرح 11231 فلسطينيا، منهم 3540 امرأة و 3436 طفلا يعاني 10% منهم إعاقات مستديمة".

تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق، مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 29 يونيو 2015.

قبل تسعة أيام، كان يوم الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب الإسرائيلية الكبرى المسماة "الجرف الصامد" ضد غزة، التي استمرت 51 يوما في شهري يوليو وأغسطس 2014. وعلى الرغم من الدمار والوفيات المروعة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، فلم تكن هناك عدالة لعائلات الضحايا المدنيين، ولا إعادة بناء للمرافق المدمَّرة، ولا ملاحقة للجنود الإسرائيليين وقادتهم من مدنيين وعسكريين أذنوا بهجمات واسعة النطاق على مساكن المواطنين ومدارس الأمم المتحدة والمراكز الطبية. وعلى وجه اليقين، يمكن القول إن مثل هذه العدالة لن تتم، ما لم تُحل النتائج التي توصلت إليها لجنة تقصي الحقائق إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يمكنه اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع إفلات إسرائيل من العقاب.

قال لي مسؤول الإعلام بمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة رولاندو جوميز "ليست هناك خطة لإعداد تقرير لعرضه على مجلس الأمن"، لكنه أشار إلى أن هناك قرارا قويا صاغه مجلس حقوق الإنسان في مطلع هذا الشهر يدعو الجمعية العامة إلى أن "تبقى مطلعة بقضية غزة حتى تقتنع باتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن تنفيذ التوصيات التي قدمتها بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في تقريرها بشأن النزاع في غزة.

ومن بين أهم الملاحظات المضمنة في التقرير البنود التالية:

77- تبدي لجنة التحقيق قلقها من إفلات القوات العسكرية الإسرائيلية من العقاب جزاء لما ارتكبته من انتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان، سواء أكان ذلك في سياق الأعمال العدائية الفعلية في غزة أو القتل والتعذيب وسوء المعاملة في الضفة الغربية. يجب على إسرائيل أن تنسلخ من سجلها الحافل بانتهاكات القوانين، ليس فقط كوسيلة لضمان العدالة للضحايا ولكن أيضا لتوفير الضمانات اللازمة لعدم تكرار انتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان.

78- شملت التساؤلات التي أثيرت حول دور كبار المسؤولين الإسرائيليين الذين وضعوا السياسات العسكرية في كثير من المجالات التي جرى بحثها من اللجنة، مثل هجمات جيش الدفاع الإسرائيلي على المباني السكنية، واستخدام المدفعية والأسلحة المتفجرة الأخرى على الآثار وعلى مساحات واسعة من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وتدمير أحياء بأكملها في غزة.. وفي كثير من الحالات يتبع أفراد من الجنود السياسة العسكرية المتفق عليها، وربما تنتهك تلك السياسة ذاتها قوانين الحرب.

وما لم ينظر مجلس الأمن ويجز التوصيات الواردة في تقرير مجلس حقوق الإنسان على أساس طارئ، فإن تنفيذ هذه التوصيات لن يتم طوعا من إسرائيل، وبالتالي لن تكون استعادة الحياة في غزة بطئية وملتوية فحسب، بل -كما حذر اثنان من الكتاب الشباب -نورة عريقات وماكس بلومنتال في الآونة الأخيرة- من المرجح أن يكون هناك هجوم إسرائيلي آخر على قطاع غزة.

وأضافت نورة عريقات، محامية حقوق الإنسان والأستاذة المساعدة بجامعة جورج ميسون في ولاية فرجينيا، بعض المعلومات المهمة عن الضحايا وآثار الحرب الإسرائيلية على غزة 2014، فقالت إن أكثر من 1500 طفل أصبحوا يتامى وأكثر من 150 ألف منزل و140 مدرسة دمّرت جزئيا أو كليا. كما أصيب 373 ألف طفل بصدمات نفسية، وهم بحاجة ماسة إلى العلاج النفسي والاجتماعي. وقالت أيضا إن "الفلسطينيين في غزة يتوقعون تكرار هجوم الصيف الماضي على قطاع غزة بقوة مماثلة أو أكبر". وباختصار، الهجمات على غزة ليست نتيجة "ظروف استثنائية"، بل هي من صميم سياسة إسرائيل الرسمية تجاه قطاع غزة".

لدى ماكس بلومنتال، مؤلف كتاب جديد عن حرب غزة عام 2014، تحليل مماثل يُركز على بيانات مباشرة من كبار المسؤولين الإسرائيليين. فلقد أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان في فبراير 2015 أن العملية الرابعة في قطاع غزة أمر لا مفر منه، تماما كما في حرب لبنان الثالثة". وقال بلومنتال في مؤتمر عُقد برعاية منظمة "شورات هادين" وهي منظمة قانونية مكرسة للدفاع عن إسرائيل من اتهامات بارتكاب جرائم حرب، إن وزير الدفاع موشيه يعلون حذر من أن هجوما ساحقا آخر سيكون لا مفر منه، سواء في غزة أو جنوب لبنان، أو كلتيهما".

رفضت إسرائيل التعاون في جميع تحقيقات اللجنة، ورفضت أيضا السماح لأعضاء لجنة التحقيق بالدخول إلى إسرائيل أو الأراضي المحتلة، واستنكرت عمل اللجنة بأسلوب عنيف في بيان أصدرته يونيو الماضي وصفت فيه قرار مجلس حقوق الإنسان بأنه "قرار معاد لإسرائيل". وفيما يتعلق بمجلس حقوق الإنسان نفسه، قالت إسرائيل "هذا المجلس لن ينجح في نزع شرعية إسرائيل، ولن ينجح في منع إسرائيل من الدفاع عن نفسها وسكانها.. ويعمل هذا المجلس كوكيل استفزازي لتغذية النيران، وليس لإطفائها".

هناك نقطة أخرى تتمثل في "تهديد إسرائيل وتخويفها وافتراء معاملتها مع رؤساء اللجنة في كل من عامي 2009 و2014 بشأن التحقيقات في حروب غزة. ففي عام 2009 عندما عيَّن مجلس حقوق الإنسان القاضي اليهودي من جنوب أفريقيا، ريتشارد جولدستون، لإعداد تقرير عن جرائم الحرب الإسرائيلية التي استهدفت المدنيين الفلسطينيين، شنَّ الإسرائيليون حملة لا هوادة فيها استمرت سنوات طويلة ضد جولدستون، واتهمته وسائل الإعلام الإسرائيلية بالخيانة و"فرية الدم" ضد اليهود. ومنعته الجماعات الصهيونية من حضور احتفال ديني يهودي خاص بحفيده، بسبب تقريره عن غزة. وأخيرا، في 2011 كتب جولدستون مقالا في صحيفة "الواشنطن بوست" قائلا إن استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين لم يكن متعمدا. ولكن مرة أخرى في فبراير 2015 استهدف الصهاينة الخبير القانوني الكندي المُعيَّن من مجلس حقوق الإنسان، وليام سكاباس، الذي استقال من منصبه رئيسا للمجلس في 2014، لمجرد أنه أدى عملا قانونيا بالأجر لمنظمة التحرير الفلسطينية PLO واتهمته إسرائيل بالتحيُّز. وعند استقالته قال سكاباس: "يبدو أن العمل في الدفاع عن حقوق الإنسان قد جعلني هدفا كبيرا لهجمات خبيثة". فأي بلد في سيادة القانون من شأنه أن يسمح بمثل هذه الهجمات على قضاتها أو على مسؤوليها الذين يتولون التحقيق في جرائم محتملة؟ هذا هو الإفلات بعينه من العقاب.

حان الوقت لتهيئة الجو الملائم لعرض النتائج التي توصل إليها مجلس حقوق الإنسان، على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لاتخاذ الإجراء اللازم ضد جرائم حرب إسرائيل.