تمر القضية الفلسطينية اليوم بأسوأ مراحلها، فلا حل أو حتى مشروع حل في الأفق، خاصة في ظل ما تموج به المنطقة من أزمة للنظام الإقليمي وعدة تحديات، والداخل الفلسطيني يعاني اقتصاديا بشكل كبير، عدا عن مسألة خلافه الداخلي والتي يعود جزء منها لعدم الاستقرار الاقتصادي، والعالم مشغول بعدد من التحديات التي جعلت فلسطين، للأسف، تتذيل القائمة.

ربما آن الأوان للعرب أن يعيدوا النظر في استراتيجية التعامل مع القضية الفلسطينية، ليس فقط فيما يتعلق بفتح باب زيارة القدس (سعود كابلي: دعونا نزر القدس، صحيفة الوطن بتاريخ 2 /8 /2105) وإنما في كامل ملف المفاوضات.

إن عملية السلام لم تكن في جوهرها سوى مجرد مأسسة institutionlization للصراع من خلال وضع إطار محدد لها، وهو ما حول عملية السلام لآلية إدارة للصراع conflictmanagement وليس آلية لحل الصراع conflict resolution. وزاد من هذا الأمر كون إدارة الصراع -أو محاولة حله- واجهت عدم عدالة من قبل الولايات المتحدة التي احتكرت دور الوسيط في العملية، ولم تدر المسألة بحيادية (مقال سعود كابلي بعنوان: مؤتمر مدريد ثان للسلام، صحيفة الوطن بتاريخ 29 /4 /2012). فالولايات المتحدة أثبتت، حتى الآن، أنها وسيط غير نزيه في هذه العملية، وبدلا من البحث عن سبل أخرى خارج الصندوق للتعامل مع القضية، انجرفنا لأساليب العمل التي لم تؤت ثمارا في الماضي. ليس هناك مشروع أميركي واضح للتعامل مع المفاوضات أو القضية بشكل عام، وعلى الأرجح لن يطرح مشروع في القريب، وإذا طرح شيء فهو لن يخرج عن دائرة مقترحات إدارة الصراع بدلا من حله. والسؤال: لماذا يستمر السعي في هذه العملية من خلال الوسيط؟ خاصة أنه وسيط أعلن رغبته في الانعتاق عن المنطقة وبالكاد يتعامل مع قضاياها الملحة؟

القضية الفلسطينية وإن بدت هامشية (أو بالأصح مجرد متوازية) مع قضايا المنطقة الأخرى، فإنها في واقع الأمر مركزية ومتقاطعة مع قضايا المنطقة الأخرى. جوهر مشاكل المنطقة نابع بصورة أو أخرى من استمرار الصراع مع إسرائيل، وهذا أمر بات حقيقة دامغة وصرح بها عدة مسؤولين سعوديين من قبل. الخطاب الدافع لجميع الحركات الإرهابية في المنطقة يتقاطع مع فكرة تحرير فلسطين، والخطاب الدافع للتغلغل الإيراني في المنطقة ينطلق أيضا من فكرة تحرير فلسطين، وبغض النظر عن كون الكثير يتاجرون بالقضية والدم الفلسطيني لأغراضهم، فإن الأهم هو الانعكاس السياسي لاستخدام الورقة الفلسطينية في المنطقة، وإيران أكبر مثال بدءا من الظاهرة الإعلامية بتسمية "فيلق القدس" و"محور الممانعة" و"التهديد بضرب بإسرائيل" وانتهاء بمحاولة احتكار الملف الفلسطيني على حساب العرب الأولى بالقضية.

المملكة كونها باتت القوة الرئيسية في النظام الإقليمي العربي الراهن ينبغي أن تقطع الطريق على المتاجرين بالقضية الفلسطينية، وعلى رأسهم إيران التي تستغل هذه الورقة لشرعنة تغلغلها في الجسد العربي ومد نفوذها في مناطق عربية، وحزب الله اللبناني مثال واضح، فهو لم ينشأ إلا على أكتاف غياب عربي رسمي واضح في احتكار ملف القضية وتحديد أجندة إدارته، وتركها لإيران وذراعها حزب الله أو حماس (أحيانا) في تحديد الأجندة أو إفساد المبادرات السياسية مع كل مرحلة. إن احتكار المملكة إدارة ملف القضية من شأنه أن يسهم في استقرار المنطقة ككل، ويجعلنا نحن من نحدد كيف ومتى نتحرك فيها بالشكل الذي يخدم قضيتنا وليس العكس.

ربما تحتاج القضية الفلسطينية اليوم إلى جرأة غير معهودة وعودة روح المبادرة، فصيغة السلام المطروحة هي صيغة عربية بالأساس من خلال مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يرحمه الله، وإطار السلام واضح لا ينقصه كثير من المفاوضات بقدر ما ينقصه تحرك سياسي، فالخروج بفلسطين من دائرة الصراع إلى دائرة الحل قد يكون مرهونا بـ(تحرك عربي) يقطع دور الوسيط نحو مخاطبة إسرائيل مباشرة، بل والتوجه هناك لطرح الخيار العربي أمامهم دون مواربة: إما السلام أو المواجهة، وأن يتركهم هذا التحرك السياسي دون فرصة للمناورة والالتفاف عليه كما فعلوا مع المبادرة العربية.

عودة المملكة للعب الدور الرئيس في القضية الفلسطينية سيضعنا على قمة المنطقة ويجعلنا من نحدد نغمة العزف الجماعي فيها. فقد أثبتت الأشهر الماضية أن العرب يمكن أن يملكوا روح المبادرة وأن تكون سياستهم وتحركاتهم حازمة، ومن شأن قطع الطريق على الوسيط أن يقطع الطريق أيضا على كل المتاجرين بالقضية، سواء إيران أو غيرها، ويعيد ملكية زمام المبادرة وإدارة القضية لحضنها الطبيعي: العربي.

إن تصورا مثل هذا لا يمكن أن يحدث دون تصور دور فاعل للمملكة فيه، وقد آن لها أن تعيد امتلاك ملف القضية الذي تشرذم بفعل كل الأيادي التي تدخلت فيه في السابق. هي لحظة يمكن للمملكة أن تصعنها اليوم.