تسعى حكومتنا إلى التحول لمجتمع واقتصاد المعرفة، وذلك لتعزيز التنمية الاقتصادية والتحرر من الاعتماد على النفط. وإذا ما تحقق ذلك فإننا سنصبح خلال العقود القادمة دولة منتجة للمعرفة ومصدرة لها ولتطبيقاتها بدلا من مستهلكة.

إن من أهم ركائز هذا التحول دعم البحث العلمي. وهنا أود أن ألفت انتباه القارئ إلى أهمية الدعم الحكومي -ممثلا في الجامعات ومراكز الأبحاث- لمجالات العلوم الطبيعية الأساسية غير التطبيقية؛ وذلك لما تلعبه من دور محوري في التنمية الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد.

وللتوضيح، فإن أبحاث العلوم تنقسم إلى نوعين بحسب الدافع من ورائها. النوع الأول هو: العلوم الأساسية، ودافعها هو الفضول للمعرفة والاكتشاف. أما النوع الثاني فهو: العلوم التطبيقية، ودافعها هو تسخير معارفنا الحالية وما تم اكتشافه مسبقا في إنتاج تطبيقات لأغراض محددة، وأهمية دعم النوع الثاني هو أمر بدهي.

بالنسبة للعلوم الأساسية -بشقيها النظري والتجريبي- فإنها تعمل على إثراء المعرفة البشرية من خلال دراسة الكون ومكوناته، والأرض والبحار، والمخلوقات الحية، والمواد، وكل الظواهر الطبيعية. وغالبا ما تتضمن تلك الأبحاث استخدامات متقدمة للكمبيوترات الفائقة، والبرمجة المعقدة، والمحاكاة، والرياضيات، وأحدث التقنيات. وقد تستغرق الأبحاث سنوات طويلة للوصول إلى اكتشافات ولخلق التقنيات المصاحبة. لذلك فهي تتطلب الصبر، وبعد النظر، والاستمرارية، والعمل الجماعي الذي لا يرتبط بشخص واحد، ولا حتى بجيل واحد.

ما يظنه بعضنا مخطئا هو أن هذه الأبحاث ترف لا تتحمله مرحلة البناء الحالية، وذلك لجهلهم بطبيعتها وقلة الأمثلة الوطنية على فائدتها. فعلى الرغم من أن الوصول إلى تطبيقات محددة ليس هو الهدف الجوهري للعلوم الأساسية، غير أنه كثيرا ما تخرج عنها تطبيقات وتقنيات مصاحبة. مثلا، قد يحتاج الباحثون في العلوم الأساسية لابتكار واختراع وسائل جديدة تمهد الطريق للاكتشافات، ومن ثم تتحول هذه التطبيقات المصاحبة إلى منتجات تخدم المجتمع. كذلك فإن الاكتشافات المتوصل إليها تخلق تقنيات جديدة، لأن التاريخ يعلمنا أن مكتشفات اليوم هي تقنيات المستقبل.

إن إهمال العلوم الأساسية هو خطأ كما تخبرنا تجارب الدول التي سبقتنا في التنمية. لأن ذلك سيحرمنا من مشاركة العالم في اكتشاف الجديد في عالم الطبيعة، وخلق التطبيقات والتقنيات كما أسلفت. وبهذا سنظل ندور في حلقة أبدية من الاعتماد على اكتشافات وتطبيقات وتقنيات غيرنا. ولن تكون تقنياتنا سوى تحسينات على تقنيات غيرنا. ولن يكون علماؤنا سوى خبراء فيما أنتجه علماء غيرنا.

ما سيجنيه الوطن من خيرات بسبب الدعم المناسب للعلوم الأساسية لا يمكن حصره أو حتى تخيله. لكن الأمر قد يتطلب بضعة عقود كي نجني تلك الخيرات، وكلما تأخرنا عن اعتبار أبحاث العلوم الأساسية جزءا لا يتجزأ من أدوات التنمية، حرمنا الأجيال القادمة والاقتصاد المستقبلي من مزيد من القوة والنمو والاستقرار.