تكشف وسائل التواصل عن قدرة الإنسان على التعايش مع الآخرين أو التنحي جانبا والنأي بالنفس.

ولا عجب أن يحفل الإنسان بالتواصل مع الآخر بقدر كبير ويقبل أو يدبر عنه. كلمة (غادر القروب) تحمل في طياتها رفضا معلنا أو مبطنا للتجانس مع المجموعة المغادرة التي قد تضيق بخروج من خرج أو تتنفس الصعداء لخروجه. اليوم إذا أردت أن تعرف رجلا أو امرأة اسأل من يعرفه: هل صحبته في قروب؟

هذه الصحبة تشبه صحبة السفر بل تتفوق عليها؛ فالسفر قد يكون أياما أو سويعات معدودة، والصحبة التواصلية تخترق حياة الإنسان الذي لم يضبطها تقنيا ليل نهار؛ يفاجأ بتنبيه الوارد، ويقلق من نغمة "القروب" في عز نومه.. ملاحقة لحياته لا تنتهي في العمل والراحة والنوم واليقظة!

ويملك بعض الناس حسا إنسانيا عاليا يردعهم عن إزعاج أوقات الراحة المألوفة، وينعدم هذا الحس عند من لم يع خطورة أن يتحول ما يرسله إلى منبع للقلق.

لو عدنا إلى الفكرة المنبع، التواصل كنمط لحياة، نجد أننا نُصدم بأن من نظنهم الأقرب لنا لأننا نتلقى أفكارهم، ونتعاطى معها قد يكونون الأبعد حين نقف أمامهم حاملين دهشة السؤال، أو منتظرين إيضاح فكرة طرحوها يوما، وبقيت عالقة في أذهاننا.. نصدم لأننا نقف أمام صمت وتجاهل، أو ردود لا تحمل ما كنا نتوقعه أو لا تحمل إلا الخيبة.

البشر شديدو التواصل، ينتظرون منك أن تؤمّن على كل دعوة يدعونها، وأن تدعو الله لهم في حلهم وترحالهم حتى -من وإلى- المنزل وإلا فسيأخذون منك موقفا؛ لأنهم يفسرون التواصل بالاهتمام المطلق من غيرهم بهم، وهذه في النهاية مسألة صعبة على الآخرين ومملة، وبشكل نسبي نجد فيه سلوكا لا يليق؛ فأن يتحول الحديث إلى استجلاب دعوات لمن نحب، أو التأمين عليها فلم تعد علاقتنا بالآخرين إلا شكلا من أشكال الاستغلال!

العكس يحدث مع قليلي التواصل، ففي القروبات بعض الناس يراك بعيني الحب ويتقبل، بينما ينظر لك آخر بالعكس خاصة من لا يتقبل المزاح، أو من يسيء فهمك، أو من يفتقر إلى مهارات التواصل، أو لا يجد لها وقتا. مدهش أن علاقات انكشفت هشاشتها من قروب، وأن أفكارا لم تصمد للأسئلة، كما أن عجزنا عن ضبط اقتحام الجوال وما يرتبط به لأوقات راحتنا حتى نصل إلى الملل والتوتر.

في ثقافتنا المعاصرة عجز عن الابتكار، أصبح المرء يتلقف العبارة الجميلة تلقف الرغيف الحار، ويبقيها متناقلة بين الأنامل حتى يطول الزمن عليها، وهي كما قال نزار في قرطاجة (شاب الزمان وأنت بعد شباب).. وأذكر أن أبا حنيفة كان يستمع قصة بإنصات وهو يعرفها من أربعين سنة، فأعجب من قدرته على اصطناع الدهشة للمكرور!

من عيوب مواقع التواصل تكرار المكرر، كما أن من مزاياها -للإنصاف- التساوي في معرفة أحدث الأخبار والقرارات، فجمعت بين النقيضين الأقدم والأحدث، الممل والمدهش!

كم من (قروب) ندمنا على دخوله وخرجنا ثم عدنا لنكرر الخروج، أظن أن الحزم أحيانا يستدعي ذلك، واللطف والمودة تستجلب العودة.. لست هنا ناقدة لوضع من خارجه، لكنني انغمست فيه تماما كما انغمس غيري، غير أني دائما كنت ألهث وراء الفكرة المدهشة في صورة عليها بعض كلمات معبرة، أو نص يحمل ثراءه بداخله ويتباهى به للمتلقي.

ألطف مجموعة ارتبطت بها هي مجموعة العمل، وتحديدا غرفة المعلمات، ورغم أننا اصطدمنا فكريا لاختلاف الرؤى في البداية إلا أننا بدأنا نؤثر ونتأثر، واتضحت لنا حقيقة نمو الوعي بالحوار وقبول الاختلاف والانسجام بشكل مدهش. جربت مجموعات مؤثرة ثقافيا واجتماعيا وصحفيا، وما أزال أنتمي إلى بعضها إلا أن (قروب) المعلمات بقي أهم مجموعة أتواصل معها، فقد نما الحوار الفكري بشكل خلاق وواع، وبدأت المجموعة تأخذ منحى يقبل التراجع وتصحيح الفكرة.

المجموعة تلخص ما يطرح من قضايا مجتمعية، وتحرص الزميلات على الدقة؛ وبدون مبالغة لو أضفنا بعض الحوارات لمدونة أو صحيفة إلكترونية فإنها تستحق ذلك. ما السر رغم أن بعض (القروبات) التي يسكنها المثقفون لا تصل إلى هذا المستوى، أو لا تريد؟!

يبرر بعض المهمومين بالثقافة وصناعتها وجودهم خارج مجال العمل بالبحث عن الترفيه والراحة والدعة من الكد الفكري، فصديقتي التي تعمل في قضايا اجتماعية لا ترغب في سماع جريمة أو معاناة خارج عملها، والكاتب أو المفكر الذي يكتب أو يعدل ما يكتبه غيره، منغمس في هموم المجتمع لا يريدها في موقع تواصل يجمع الأصحاب، وفي النهاية آتت صناعة الثقافة ثمرتها، فنقلت أهم القضايا والحوارات الجادة من مجالس النخبة وهبطت بها إلى حوارات الأصدقاء والزملاء فأصبح النخبوي متاحا للجميع، بينما بحث المثقف النخبوي عن مجموعة تخفف عنه بابتسامة أو خبر طريف، وهنا يقال هذا حق له!