طرحت القمة الرابعة للدول العربية ودول أميركا الجنوبية "أسبا" المنعقدة حاليا في الرياض، أكثر مما هو ظاهر للعيان في "نظرية الجنوب – الجنوب"، لأنها وضعت العالم العربي – لأول مرة – رغم كل مآسيه في فلسطين، والعراق، واليمن، وسورية، وليبيا، في مقدمة التنافس الإقليمي نحو دول أميركا الجنوبية في عصر العولمة الاقتصادية، حيث تتزاحم القوى الإقليمية غير العربية، إما لإقصاء دور العرب وتهميشهم أو التمدد علي حساب مصالحهم، وقضاياهم مثل إيران وإسرائيل، وهو دور تاريخي يحسب للمملكة.

اللافت للنظر أن "الجنوب" الذي تقوده المملكة في الشرق الأوسط مع دول أميركا الجنوبية وشرق آسيا، أثبت حتى الآن أنه الأجدر على التعاطي مع متغيرات العولمة الاقتصادية، والأكثر فهما لآلياتها وتحدياتها، ويتمثل ذلك في الاعتماد المتبادل، والتكاملية والتوافقية، وهي باختصار مقومات القوة الناعمة في عالم اليوم.


خيط الأمل

حسب معظم التقارير الدولية المنصفة في الشرق والغرب على السواء، فقد نجحت سياسات المملكة في السنوات الأخيرة في زيادة قدرتها على التأثير في البلدان الأخرى خارج محيطها الإقليمي، التي تسمى بالدول "العابرة للمحيطات والمتمايزة الثقافات" من دون إجبار أو إكراه، فيما أطلق عليه المنظر الأميركي، جوزيف ناي، "القوة الناعمة والقوة الذكية"، وتمثل ذلك في ضم أهم المجموعات الاقتصادية الناشئة والواعدة من أقصى غرب أميركا الجنوبية، وحتى أقصى شرق آسيا إلى عالمنا العربي، وهو ما بات يشكل سبقا فعليا في العقد الثاني من الألفية الثالثة، يتجاوز مفهوم "القوة الناعمة"، الذي وظفته الولايات المتحدة وأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

النفوذ الإيجابي للمملكة، في مقابل النفوذ السلبي للولايات المتحدة، هو واقع جديد وليس مجرد تنظير، ظهر بشكل خاص في أميركا الجنوبية وأفريقيا وشرق آسيا، وهو يعود إلى نهاية الحرب الباردة عام 1989، حيث فشلت الولايات المتحدة في التعامل مع المجتمع الدولي والتحديات الجديدة التي ظهرت ما بعد الثنائية القطبية، مع سقوط الاتحاد السوفيتي السابق والكتلة الشرقية، فقد لجأت أميركا إلى قيادة العالم منفردة، بالقوة العسكرية وحدها منذ عام 2000 وليس بعد الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر عام 2001. واستمر هذا الفشل يرافقها "في مجال القوة الناعمة" مع غزو العراق، وضرب ليبيا، وصولا للأزمة السورية وتصاعد لهجة الصدام الحالية مع الصين وروسيا.

المملكة كانت أسرع في التقاط خيط الأمل وسط غيوم التشاؤم لتعزيز التعددية في مقابل الأحادية في النظام الدولي.


عمالة ماهرة

هناك ما بين 25 - 30 مليون مهاجر عربي، من أفضل وأمهر الجنسيات المهاجرة إلى دول أميركا الجنوبية، خاصة البرازيل، والأرجنتين، وتشيلي، وفنزويلا، والمكسيك، وبعضهم لعب أدوارا مؤثرة في نهضة وازدهار هذه المجتمعات الجديدة.

تزايد النشاط التجاري والاقتصادي بين ضفتي الأطلنطي الجنوبي استمرار للشراكة التي بدأت في الستينيات من القرن العشرين مع إنشاء منظمة أوبك، التي شملت الإكوادور وفنزويلا، وازدهرت في ثمانينات القرن الماضي، لكن الجديد في القرن الحادي والعشرين هو زيادة المنافع المتبادلة بالتزامن مع تراجع الأوضاع الاقتصادية في الجزء الشمالي من المحيط الأطلنطي، الولايات المتحدة وأوروبا حتى حدود روسيا، بما يرجح أن تمتد هذه الشراكة العربية – الأميركية الجنوبية إلى الصين والهند، فيما يشبه الحزام الاقتصادي المكمل والموازي لطريق الحرير الجديد، وهو ما ينبئ بميلاد "اقتصاد جديد"، يصنعه الجنوب من الصين والهند شرقا، وحتى الغرب الأقصى في أميركا الجنوبية، يتوسطه القلب النابض في الشرق الأوسط، السعودية.


مكاسب استراتيجية تعزز البنية الصناعية

1- إذا كان العالم العربي يفتقد الأمن الغذائي فإن هذا الافتقاد "بلغة الاقتصاد في عصر ما قبل العولمة" أصبح فرصة ثمينة، يمكن تفعيلها في عصر العولمة عن طريق الاستثمار والتعاون في مجال الزراعة والصناعة والتجارة مع دول أميركا الجنوبية.


2- إذا كانت الأخيرة، خاصة البرازيل والأرجنتين وتشيلي بحاجة إلى الاستثمار السعودي المباشر، فإن نتائج هذه الشراكات سوف تسهم في تعزيز البنية التحتية الصناعية للجانبين معا، فما ينتج هناك يصنع هنا وهناك، وهي نقلة جديدة في الاقتصاد لأنها تشمل التعاون في مجال النفط والطاقة والتعدين والتكنولوجيا والتدريب والنقل البحري والجوي، فضلا عن الأيدي العاملة.


3- تقدم تجربة دول أميركا الجنوبية نموذجا مختلفا على المستوى الاقتصادي والسياسي، أقرب إلى الخصوصية العربية – الشرقية، حيث الاهتمام بالتحرر من التبعية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستقلال في القرارات السيادية. وما كنا نحسبه  "خسائر" نتيجة للتحولات الاستراتيجية في الشرق الأوسط وأميركا الجنوبية والعالم، تحول بفعل "حكمة القائمين على أمر المملكة" عبر هذه الشراكات الجديدة إلى مكاسب.