تخيّل فصلا دراسيا يحصل فيه جميع الطلاب على درجة الامتياز! هكذا دون طلبة متأخرين وجمهور في المنتصف وقلة في المقدمة، ليس هذا وحسب بل يحصل الجميع على درجة "الألف" منذ اليوم الأول للدراسة!

أوليس هدف الالتحاق بفصل دراسي هو التعلّم واكتساب المهارات؟ وليس تلقي وحفظ المعلومات ثم سردها في امتحان قصير قد لا يكون فرصة كاملة لتأكيد اكتساب الحد الأدنى من الكفاءات!

هذه الفكرة الجنونية بمنح الجميع الدرجة العليا منذ البداية كانت من بنات أفكار الموسيقار الأميركي  الشهير: "بينامين زاندر" الذي يستقبل كل عام عشرات الطلاب حول العالم في فصله الدراسي لتعلم عزف البيانو وقيادة الأوركسترا، وهو يدرك أنهم جميعا يتجشمون عناء السفر وهم يحملون شغفا هائلا وعشقا لعوالم الموسيقى، خصوصا الكلاسيكية، غير أنهم كما جميع الطلاب غالبا ما يقعون في فخ المقارنة، ولا يدركون أن القمة تتسع للجميع، إذ يفقد الكثير حماسته للتعليم والتدريب حال تدشين فصله الدراسي، وذلك حينما يؤمن عقله الباطن أنه وإن كان أفضل من صاحبه، إلا أنه بالتأكيد أقل مستوى من صاحبه الآخر، وهكذا دواليك حتى يغرق في دوامة الخوف من عدم تحقيق الكمال إلى الخوف من الوقوع في الخطأ، وينتهي الوقت المخصص للدراسة والتدريب دون تعلّم حقيقي، لأنه يحاول الصعود من الأسفل نحو الأعلى، وغني عن القول إنه لا يمكن أن تصعد من الأسفل إلى الأعلى دون أن تقع ولو لمرة واحدة على الأقل.

في بداية العام الدارسي، وبعد أن يرحب  "زاندر" بطلابه الجدد؛ يصدمهم بتقرير أنهم جميعا سيحصلون على  درجة الامتياز نهاية العام! ولكن شرط أن يكتب الواحد منهم رسالة موجهة إليه خلال الأسبوعين الأولين من الدراسة، وأن تكون مؤرخة بشهر مايو من العام القادم، أي حينما ينتهي العام الدراسي الحالي، وأن تبدأ هذه الرسالة بجملة: "أنا حصلت على درجة "أ" بسبب .... "، ثم يقوم الطالب بوصف مستواه المهاري الذي وصل إليه في مايو القادم! فقط ليبرر حصول على هذه الدرجة الاستثنائية، وهو – أي زاندر- يقول إنه بهذه الوسيلة المبتكر يجعل طالبه يبدأ يتمثل سلوك ومهارات الشخص الذي سيكون خلال أشهر قليلة، والذي يكتب عنه الآن، وأنه سيفعل المستحيل ويتجاوز كل الصعاب فقط ليصل إلى الشخصية التي رسمها في خطابه.

وهذا ما يحدث بالفعل.. يتحمس الطلاب ويكتبون عما يحبون أن يكونوا عليه، مما يجعلهم يركزون على أنفسهم وحسب، ويتركون خلفهم إحساس المنافسة الزائف، ويتجاهلون الصوت الذي يمنعهم من اقتراف الخطأ نحو الوصول إلى التفوق، فيرتاحون نفسيا، وتشحذ منشارهم للوصول إلى أقصى ما يستطيعون، ولك أن تتصور المستوى العلمي والمهاري لفصل دراسي لا يضم سوى الحاصلين على درجة الامتياز! وهذا ما يفخر به "زاندر" صاحب التجربة الإدارية الطويلة والأفكار القيادية المبتكرة، فهو دوما لا يدرّس سوى طلاب الامتياز على حد تعبيره.

وأنت أيضا تستطيع أن تمنح من حولك درجة "الامتياز".. الزوجة، صديقك المقرّب، زميل العمل.. وهلم جرا، ذلك أن منحها مقدما والحديث بوضوح عما يجب على الطرف الثاني عمله لاستمرار الحصول عليها، كفيل بتحقيقه الدرجة العليا ويزيد، بل إن هذه المبادرة قد تكون فرصة لرفع مستوى العلاقة وتحقيق شيء من التوقعات المتبادلة.

وكما يتحمس كثير من الطلاب لهذه الفكرة المجنونة بمنحه الامتياز مقدما؛ هناك فئة لا بأس بها لا تتجاوب مع هذه الفكرة، لأنهم يؤمنون بالطريقة التقليدية، حيث التلقي والاستماع إلى المعلم مهما قال، وهو بالذات ما يحدث دوما مع  طلاب شرق القارة الآسيوية، إذ تلعب التقاليد واحترام التراتبية دورا كبيرا في المجتمع، ولا يقبل هؤلاء أن يقوموا بتقييم أنفسهم بدلا من معلمهم! لكنهم وبعد فترة من الزمن يبدأون بفهم الفكرة، وكيف أن الشخص في حد ذاته قادر على فهم نفسه وإمكاناته، وقادر على تحديد مستواه اليوم، والأهم من ذلك قادر على رسم خارطة طريق مستواه في المستقبل القريب.

إننا حينما نضع لأنفسنا هدفا مرتفعا نصب أعيننا؛ نجد أننا غالبا ما نحققه أو على الأقل نقترب من تحقيقه، على العكس حينما نبدأ من الأسفل، ونضيع في دوامة عدم وضوح الهدف، ودوامة الخوف من الفشل، وبدلا من القفز إلى الأعلى، نبقى عالقين دون تحرك.

أكاد أجزم أن كثيرا من المعلمين والمعلمات سيصابون بالهلع من مجرد التفكير بمنح جميع طلابهم درجة الامتياز هكذا دون مقابل، ولكن دعونا نفكر بصدق في جوهر العملية التعليمية، هل هدفنا هو مجرد تقييم استحقاق الطالب للدرجات؟ أم أن هدفنا الأسمى هو نجاح العملية التعليمية وتوريث الخبرات والمهارات؟ أما سؤالي الأهم- لنا نحن من غير المعلمين- لم لا نعيد تعريف علاقاتنا بمن نحب؟  لم لا نمنحهم "الألف" منذ البداية؟