ظل النظام العالمي على مدى القرن العشرين محكوما بصيغة توازن القوى المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية سياسيا من خلال منظمة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن بما منحه من حق النقض للقوى الخمس الكبرى. ومن جهة أخرى اقتصاديا من خلال مؤسسات اتفاقية بريتون وودز عام 1944 (البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية) بما منحته من حق التصويت غير المتوازن للأعضاء بناء علي حصصهم التي يدفعونها، وقدرة تلك المؤسسات باستخدام قوتها الاقتصادية والعولمة لفرض أجندتها الاقتصادية على الدول. وإذا كانت إدارة النظام العالمي سياسيا حكمها التوازن خلال الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، فإن الإدارة الاقتصادية للنظام العالمي كانت ساحة صراع بين النموذجين الرأسمالي والشيوعي، وهو ما انتهى بسقوط الشيوعية وتسيد النموذج الرأسمالي، وعلى رأسه مؤسسات اتفاقية بريتون وودز ورؤيتها التي عرفت بـ"إجماع واشنطون" (Washington Consensus).

استمر النظام العالمي الجديد بصيغة إدارته السياسية ذاتها، لكن شهدت الساحة تغيرا جديدا فيما يتعلق بالإدارة الاقتصادية من خلال دخول دول الكتلة الشيوعية السابقة ضمن المنظومة الرأسمالية، وأبرزها الصين التي تحولت رغم شيوعية نظامها المعلن إلى دولة ذات نظام رأسمالي موجه. منذ سقوط الاتحاد السوفييتي اضطرت الدول الشيوعية للانصياع لمنظومة رؤية مؤسسات بريتون وودز في محاولة للنهوض اقتصاديا وهو ما تحقق بعد 20 عاما. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين أصبحت ساحة النظام العالمي الجديد بحاجة لإعادة ترتيب، وهو ما تبدى من خلال مطالبات الدول الصاعدة سياسيا للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن (ألمانيا واليابان والهند والبرازيل). وكذلك من مطالبات الدول الصاعدة اقتصاديا للحصول على حقوق أفضل في التصويت داخل مؤسسات بريتون وودز (الصين وروسيا والهند). كلا المطالبتين لم تحققا شيئا نظرا لمقاومة النظام لمحاولات تغييره.

على أن العالم شهد مع بدايات القرن الجديد حدثين سيكون لهما انعكاس مهم على ساحة العلاقات الدولية المتغيرة:

الأول: الأزمة المالية العالمية عام 2008: كشفت هذه الأزمة عن وجود خلل بنيوي في اقتصاديات ما كان يسمى "العالم الأول" حيث ضربت الأزمة الدول الكبرى ذات الاقتصاديات الراسخة وأظهرت عدم قدرتها على معالجتها منفردة، وهو ما استدعى توسيع عضوية نادي الكبار السابق، مجموعة السبعة G7 لتضم الاقتصادات الصاعدة بتفعيل مجموعة العشرين G20 للمساهمة في حل الأزمة العالمية. كان عام 2008 بمثابة الإعلان عن وجود تحول في الميزان المالي العالمي من الغرب إلى الشرق، فالفوائض والملاءة المالية لم تعد لدى الغرب وإنما لدى دول جديدة صاعدة اقتصاديا (دول الخليج وشرق آسيا)، وأصبح لزاما أن يكون لهذه الدول دور في توجيه النظام الاقتصادي العالمي، مع ما يحمله هذا التحول من انعكاسات سياسية مستقبلية. هذا التحول الاقتصادي يعني تحولا مستقبليا في ميزان التوازن الجيواقتصادي

الثاني: تأسيس مجموعة البريكس BRICS لمؤسساتها المالية البديلة عام 2014: مجموعة البريكس التي تضم كلا من الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا تمثل النظير الدولي لمجموعة دول الأطلنطي التي تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومثل قرار البريكس بتأسيس بنك تنمية خاص بهم كبديل للبنك الدولي برأسمال 50 مليار دولار، وصندوق لاحتياط العملات برأسمال 100 مليار دولار كبديل لصندوق النقد الدولي، علامة على تمرد دولي على منظومة اتفاقية بريتون وودز وبداية تغير بنيوي فيما يتعلق بإدارة الاقتصاد العالمي وما يتبعه هذا الأمر من صراع بين الشرق والغرب عليه، وهو ما يتبدى راهنا من خلال الدعم المالي الصيني من خلال هذه المؤسسات الجديدة لدول مثل روسيا وفنزويلا التي تقف على النقيض من السياسات الغربية. تمثل مجموعة البريكس اليوم حوالي 30? من حجم الناتج القومي العالمي، بينما تمثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حوالي 45?، والانعكاسات السياسية لهذا التحول العالمي بدأت في الظهور من خلال الاستقلالية السياسية التي بدأت تشكلها كتلة البريكس مقابل كتلة الأطلنطي، ففي عام 2011 عارضت كتلة البريكس مجتمعة قرار حلف الناتو ضرب ليبيا عسكريا، وفي عام 2014 دعمت دول المجموعة قيام روسيا بضم منطقة القرم لها.

من جهة أخرى تسعى مجموعة البريكس لتأسيس مؤسستها الخاصة بالتصنيف الائتماني على غرار المؤسسات الثلاث الكبرى في الولايات المتحدة (فيتش، مووديز، ستاندرد آند بوررز) وذلك لدخول عالم التصنيف الائتماني بما يملكه من تأثير سياسي على الدول حيث تتحكم هذه المؤسسات الثلاث في حوالي 95? من حجم سوق التصنيف الائتماني حول العالم، ومن خلال رفع أو خفض التصنيف الائتماني للدول يمكنها التأثير على اقتصاداتها. وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية عام 2008 أن لعبة التصنيف الائتماني سياسية بامتياز، مووديز، على سبيل المثال، خفضت حوالي 80? من قيمة سندات رهن عقاري تبلغ 850 مليار دولار كانت صنفتها في 2006 على أنها (AAA) وهو أعلى تصنيف. لذلك على سبيل المثال قامت مؤسسة داغونغ الصينية للتصنيف الائتماني بإعطاء الولايات المتحدة تصنيف (Aـ) وهو أقل بخمس نقاط من تصنيفها لروسيا (AA+)، أي اعتبار الاقتصاد الروسي أفضل من الأميركي ائتمانيا.

استخدام القوة المالية والاقتصادية كأحد أذرع السياسات الخارجية، أو ما يعرف بالجغرافيا الاقتصادية، بات جزءا رئيسيا من مناهج عمل الدول، ودول الخليج التي تملك مقومات رئيسية للقوة الجيوـاقتصادية تتمثل في ثلث احتياطات النفط العالمي و20? من حجم إنتاجه العالمي واحتياطات نقدية تبلغ تريليون دولار وصناديق سيادية تبلغ محافظها حوالي 2 تريليون دولار، أي ثلث حجم أصول الصناديق السيادية عالميا لا تزال إلى اليوم غير فاعلة على الصعيد العالمي.

قدمت المملكة منذ بدء الطفرة ما يقرب من 100 مليار دولار تبرعات لمختلف الدول عدا المساعدات المختلفة سواء كانت مدنية أو عسكرية، ما جعل المملكة أكبر دولة مانحة في العالم بالنسبة لعدد السكان، وقد تكون دول الخليج الأخرى منحت مجتمعة مبلغا موازيا لهذا، ما يجعل دول مجلس التعاون من أكبر المانحين عالميا. منذ بدء الربيع العربي فقط، منحت المملكة كلا من مصر والأردن وسورية واليمن والمغرب والعراق وفلسطين أكثر من 20 مليار دولار ومنحتهم الدول الخليجية الأخرى مجتمعة مبلغا موازيا، مما يجعل مجموع المنح في غضون 4 سنوات يساوي تقريبا رأسمال بنك التنمية الخاص بمجموعة البريكس. دول الخليج والمملكة على وجه الخصوص، بما تملكه من قوة جيواقتصادية تتمثل في المقام الأول بالفوائض المالية والقدرات النفطية، يمكن لها أن تطلق مؤسساتها المالية الخاصة، سواء بنك التنمية الخاص بها أو إنشاء مؤسستها الائتمانية الخاصة، فالأمر لا يعدو كونه خلق ذراع سياسية في عالم متشابك.