دعني أصارحك القول.. لو عاد بي الزمن من جديد؛ لاخترت التوقف عن الدراسة عاماً كاملاً بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة وقبل التحاقي بالجامعة!

نعم سوف أتوقف عن الدراسة تماماً وأعيش مغامرة ما يطلق عليه: "عام التفرّغ" Gap Year، وهي الأشهر الاثني عشر التي تلي الحصول على الشهادة الثانوية العامة دون الالتحاق مباشرة بدراسة نظامية سواء كانت جامعية أو دون جامعية، والفكرة ببساطة تتمحور بمزيدٍ من التعرّف على النفس واهتماماتها، خصوصاً مع التحرّر من الالتزام الدراسي اليومي، وضغوط الوالدين والعائلة، والهرب من تفضيلات الأصدقاء وتوصيات المعلمين.

بمجرد الانتهاء من العام الدراسي الأخير في التعليم العام ينطلق الشاب في رحلة جامحة بعيداً عن منزله، ليختبر العمل في وظائف مختلفة، وليشارك في أعمال تطوعية متنوعة، وليمارس هوايات واهتمامات لم يكن يجد الوقت الكافي لها، وليسافر دون تخطيط وبميزانية منخفضة، ليختلط بثقافات لم يعهدها، وليعاشر من لم يعرف من قبل، والرائع أن كل يوم من أيام هذه السنة قد يضيف من المعارف والخبرات ما يفوق ما جناه الشاب خلال سنواته الثلاث الأخيرة، والتجربة خير برهان على أن هذه الأشهر قد تغيّر من بوصلة التخصص الجامعي إلى شيء يحبه ويرغب به، على عكس ما كان يعتقد حينما كان يفكر ويفاضل نظرياً بين التخصصات خلال عامه الأخير في المرحلة الثانوية، أو قد تقوده إلى مسارٍ آخر في حياته لم يكن يجرؤ أن يفكر به!

خلال السنوات الماضية توسع الاهتمام بهذا المفهوم، إذ تكاثر عدد الجمعيات غير الربحية المتخصصة في توجيه الشباب نحو استغلال أمثل لهذه السنة، ناهيك عن المجلات والشركات المتخصصة، بل إن عدداً متزايداً من الجامعات أضحى أكثر اهتماماً بتشجيع الطلاب على خوض غمار هذه التجربة، كما هو الحال في جامعات النخبة الأمريكية التي يزداد اهتمامها بسنة "التفرّغ" عاماً بعد عام، نظراً لأثرها الملاحظ على نضج الطلاب القادمين بعدها، فجامعة "هارفرد" العريقة تشجّع مثل هذه المبادرة، وتوّفر فرصة تأجيل الدارسة لسنة واحدة، لمن يلتحق ببرنامج سفر أو مشروع خاص، وغالباً ما تصدر الموافقة سنوياً على تأجيل قبول 110 من الطلاب والطالبات كل عام ممن يفضلون قضاء سنة التفرّغ قبل السنة الجامعية الأولى. ناهيك عن بعض الجامعات التي تقدم برنامجاً مجدولاً لسنة التفرّغ، الذي قد تصل رسومه إلى ثلاثين ألف دولار أميركي!

بل إن جامعة "تافت" العريقة في بوسطن أطلقت هذا العام برنامج: "1+4"، مستهدفاً جمهور الطلاب ممن يرغبون فرصة الفوز بسنة التفرّغ قبل الدراسة الجامعية التقليدية، بحيث يختار الطالب ما يناسبه من فرص التجارب داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، ثم بعد نهاية العام يلتحق بحرم الجامعة في تخصصه العلمي، والرائع في الأمر أن الشاب لا يجب أن يقلق من التكلفة فسنة التفرّغ في جامعة "تافت" تمول ميزانيتها من مؤسسات خيرية تستهدف رفع مستوى وكفاءة طالب الجامعة الأميركي.

وفي حقيقة الأمر أن كثيراً من الخبراء ينصحون بالتخطيط العام المسبق لهذه السنة، دون الغوص في التفاصيل الدقيقة، كون الإغراق في التحضيرات سوف يحرم الشاب من متعة المغامرة ولذّة اتخاذ القرار، بالإضافة إلى أن الفكرة الأساسية هي التعرّف الحقيقي على النفس وكوامنها، وهو الأمر الذي لن يحدث حينما تكون مخططاً لكل شيء بالتفصيل، كما يؤكد –الخبراء- أن أثر هذه السنة المختلفة سوف يكون أكبر من توقع الشاب، وسوف تكشف له عن كثير من الدواخل والاهتمامات، وسوف تُنير له درب مستقبله، بدلاً من إضاعة زهرة ربيع عمره في ما لا يحب ولا يرغب.

دعني أسألك سؤالا قد يكون محرجاً، لكنه بالتأكيد سوف يجعلك تعيد التفكير بما جناه استعجالنا للحصول على الشهادة الجامعية: ماذا لو عاد بك الزمن، وعشت سنة التفرّغ هذه وخبرت تجارب مختلفة خارج محيط عائلتك ومسقط رأسك؛ هل سوف تختار نفس تخصصك الذي تخرجت به أم لا؟ أكاد أجزم أن الكثيرين سوف يمزّ شفته ويؤكد أنه قد يختار تخصصاً آخر. لذا عزيزي طالب الثانوية العامة فكّر بهذه الفرصة، وتذكر أنها مجرد سنة واحدة لا تمثل شيئاً يذكر في مجمل حياتك الطويلة – بمشيئة الله-، لكنها قد تكون سبب سعادتك ونجاحك!