أعتقد أن من أهم خصائص الاستراتيجية العامة للأمن السياسي: وضوح الرؤية، والعمل على تفكيك هذه الرؤية عبر برامج عمل قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى. كذلك يحتاج ذلك مرحلة أهم وهي المتابعة والإشراف على تنفيذها وتقييمها وتقويمها. ومن خصائص الأمن السياسي خارجيا العمل على وجود إعلام قوي ومقنع يصل إلى الآخر، كما تحتاج استراتيجية الأمن السياسي إلى قوة ناعمة قريبة من صناع القرار العالمي، أما داخليا فالأمن السياسي يحتاج لشفافية وتلمس للمشكلات والعمل على حلها قبل تفاقمها.

في المجموع، من أجل حماية نفسها وتحصينها، تحتاج كل دولة قوة عسكرية واقتصادا متينا، ومجتمعا واعيا ومدركا للتطورات والمتغيرات من حوله.

عند الحديث عن إيران والدول العربية من مفهوم الأمن السياسي والإعلامي، يعلم الجميع أن لدى إيران مشروعا واضح المعالم تجاه دولنا وتم إقرار برامج عمل وخطط على مدى قريب ومتوسط وبعيد. لذلك يمكن اعتبار عملها مؤسسيا بالدرجة الأولى، بغض النظر عن جدواه وإمكانية تطبيقه أو ما حققه طيلة العقود الثلاثة الماضية. لن أتحدث عن الجوانب العسكرية والسياسية والأيديولوجية، بل سأركز على الجانب الإعلامي تحديدا. تملك إيران آلة إعلامية ضخمة تمهد الطريق للمشروع الفارسي الطائفي وتعمل على إنجاحه حتى في أضعف مراحله. قنوات ومواقع تبث وتكتب بلغات مختلفة، تروج للشائعات ضد شخصيات سياسية، وتتهم رموزا دينية من الجانب المقابل بإصدار فتاوى عجيبة ومضحكة أحيانا وهي في واقع الأمر لم تصدر منهم مطلقا. كما تتدخل هذه الوسائل الإعلامية في الشؤون الداخلية للدول العربية ليل نهار، تؤجج هنا، وتصعد هناك، تحاول أن تضرب المجتمعات العربية ببعضها البعض ليتحول الصراع داخليا ويتم نسيان الخارج، بأسلوب مماثل تماما لما تفعله إسرائيل منذ 1948. أما في وسائل التواصل الاجتماعي وما يعرف بالإعلام الجديد، فحدث ولا حرج. فقد جند الحرس الثوري الآلاف من عناصره علاوة على ثلة من ضعاف النفوس والمرتزقة من بعض الدول العربية لينطلقوا في تويتر والفيسبوك والإنستغرام وغيرها بأسماء عربية وخليجية ولهجات محلية وصور تعريفية رمزية أو مسروقة من الإنترنت، كل ذلك بهدف بث الشائعات وإنشاء الهاشتاقات ضد الأنظمة السياسية وبعض شرائح المجتمعات العربية ليزداد الصراع وترتفع معدلات الحقد والبغض بين هذه الفئات، والهدف لا يخفى على كل ذي لب.

في المقابل، يتساءل كثيرون: ما المشروع الخليجي المواجه لنظيره الإيراني وهل هناك فعلا استراتيجيات خليجية للوقوف في وجه الأطماع الفارسية؟ هل لدى الدول العربية والخليجية تحديدا برامج وخطط تنفذ هذا المشروع إن وجد وتعمل على تقييمه بشكل دوري؟ في نظري أن الإجابة بالنفي في كلتا الحالتين، ولذا نرى أن المشروع الإيراني -باستثناء عاصفة الحزم وإعادة الأمل اللتين تعملان بقوة على بتر الذراع الإيراني في اليمن- لم يجد ما يوقفه أو يعيده إلى الداخل لمواجهة الاستحقاقات المحلية التي يتهرب من مواجهتها. السبب في نظري ليس ضعف هذه الدول أو قوة إيران، إطلاقا، إن ذلك يعود إلى غياب الرؤية والهدف. هذا الواقع أظهر إيران كدولة قوية وهي ليست كذلك، ولكن عدم توحد الجهود وتناغم القراءة السياسية الخليجية من التحركات الإيرانية وعدم الاتفاق على إذا ما كانت إيران تشكل تهديدا وجوديا أو تهديدا أمنيا وسياسيا لدول المجلس أو أنها مجرد منافس إقليمي يعمل على حماية مصالحه واستغلال الفراغ الاستراتيجي المتاح في المنطقة بما يخدم تطلعاته القومية والمذهبية وسيبقى في هذا الإطار دون تطور مستقبلي يشكل خطرا على الكيانات الخليجية. بسبب هذا الموقف السياسي الخليجي المتباين لا نجد إعلاما خليجيا لديه استراتيجية إعلامية واضحة المعالم والأهداف تواجه الآلة الإعلامية الإيرانية، وبخاصة ونحن في عصر يلعب فيه الإعلام الدور الأبرز على كافة الأصعدة.

أما على الصعيد الدولي، فلدينا عجز كبير في إنشاء قوة ناعمة تخدم مصالحنا في الغرب. فلم نعمل على خلق لوبيات (قوى ضغط) خليجية قريبة من دوائر صنع القرار الأميركي والأوروبي وبيوت الخبرة ومراكز الدراسات الاستراتيجية، كما لم نعمل على تصحيح الصور النمطية الخاطئة عن مجتمعاتنا، ناهيك عن غياب قنوات تلفزيونية تخاطب الرأي العام الغربي وتسوق لقضايانا العادلة. هذا الغياب جعل الخصوم أكثر حضورا، حتى وإن كانت حججهم ضعيفة وواهية، فليس هناك من يفندها ويكشف عورها ويخلع الحجاب عن طائفيتها وعنصريتها.

أما داخليا، وهو الأهم في نظري، فيمكننا القول، ووفقا لما نعايشه بشكل يومي على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام الأخرى ومواقع التواصل الاجتماعي، أن الأمن المجتمعي مهزوز بسبب الصراع تحت مظلات حزبية ومناطقية وجهوية وأيديولوجيات محلية ومستوردة وانشغلنا بصراعاتنا الداخلية ونسينا الخارج، كما نسينا الكيان الأكبر وضرورة الدفاع عن مصالحه ومواجهة الحملات المسعورة الموجهة ضده على عدة جبهات ولأهداف مختلفة ومصالح متباينة ولكن جميعها تستهدف دولنا وشعوبنا في نهاية المطاف.