هل ما يحدث الآن من احتقان بين قيصر روسيا فلاديمير بوتين، وسلطان تركيا رجب طيب إردوغان؛ جراء إسقاط المقاتلات التركية إف 16 للقاذفة الروسية سو 24، سيؤدي إلى خصام، أم عداء وصدام، بين دولتيهما؟ سؤال لا يمكن الإجابة عنه، دون الإجابة عن السؤال التالي: هل بين روسيا وتركيا، صراع استراتيجي يمثل انتصار أي منهما هزيمة منكرة للآخر وتحيله من قوة أولى إلى قوة ثانوية؟

الأسئلة أعلاه، لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال استعراض تاريخي للتدافع أو للتزاحم الاستراتيجي بين روسيا وتركيا ودور دول أوروبا في التلاعب على تناقضاتهما، من أجل تأمين وترسيخ مصالحها في منطقة صراعهما. وقد قصدت إطلاق مسمى القيصر على بوتين، ومسمى السلطان على إردوغان؛ كون كل منهما، كما هو ظاهر، يريد إحياء مجد دولته القديم. مع كون روسيا الآن لا تقارن قوتها الذاتية بقوة تركيا، المعتمدة على كونها عضوا في حلف الناتو.

كانت روسيا تعتمد تاريخيا على غربيتها، بينما تعتمد تركيا على شرقيتها؛ ولكن الآية انعكست الآن، حيث أصبحت روسيا تعتمد على شرقيتها، وتركيا تعتمد على غربيتها. فظهير تركيا الاستراتيجي هو الغرب، بما يمثله من حلف الناتو، بينما ظهير روسيا الآن هو الشرق، المتمثل في الصين والهند وإيران، ودول "البريكس" اقتصادياً، وسياسياً.

كانت شهية روسيا القيصرية دوماً مفتوحة على توسعاتها في الشرق، آسيا الوسطى والشرق الأوسط، بينما شهية تركيا كانت دوماً مفتوحة على توسعاتها في أوروبا. وعليه تلاعبت الدول الغربية، بما يمثلها الآن حلف الناتو، على تناقضات الدولتين من أجل تحقيق مصالحها هي. وهذا ما حدث فعلاً في حرب القرم، بين روسيا والدولة العثمانية، ودخول أوروبا حلبة الصراع في هذه الحرب من أجل ترسيخ مصالحها في المنطقة، وتهميش دور كلا الدولتين، روسيا والدولة العثمانية.

نشبت حرب القرم 1853 - 1856م، بين روسيا، في عهد القيصر نيقولا الأول، وبين الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالمجيد. سبب الحرب غير المباشر، هو طلب روسيا من الدولة العثمانية أن تمنحها حق إدارة الأماكن المسيحية المقدسة في بيت لحم؛ كنيسة القيامة وقبر مريم وغيرها من الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين ورعايتها. فلما علمت كل من بريطانيا وفرنسا بذلك، طلبتا من السلطان أن يرفض الطلب الروسي. كان الرهبان الكاثوليك، التابعون لفرنسا، هم الذين يديرون الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين؛ والتي ترغب الدولة الروسية باستبدالهم برهبانها الأرثوذوكس. وخوف بريطانيا وفرنسا ليس من إدارة الرهبان الأرثوذكس للأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين؛ ولكن خوفها من أن تجد الأساطيل الروسية الحجة في التواجد في شرق البحر الأبيض المتوسط الدافئ، وتهديد مصالحها في وراثة رجل أوروبا المريض، الدولة العثمانية.

رفض السلطان العثماني طلب القيصر الروسي، بتشجيع، أو ضغط من بريطانيا وفرنسا، فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، والتي دخل جيشها الولايات العثمانية في منطقة البلقان شرق أوروبا. هنا أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مع بعض الدولة العربية- مصر وتونس- دخول الحرب ضد روسيا بجانب الدولة العثمانية. فرنسا وبريطانيا أرسلتا قطعهما البحرية إلى سواحل سورية وفلسطين؛ ودارت معارك شرسة في حوض الدانوب شرق أوروبا؛ قتلت فيها أعداد كبيرة من الجنود وحتى القادة من كلا الطرفين. وفتحت الدولة العثمانية جبهة ثانية في الشرق على روسيا، وهي جبهة القوقاز، حيث شن القائد الشيشاني شامل، الحرب على روسيا من جهة آسيا الوسطى (الشيشان في سورية).

الأسطول الروسي استطاع تدمير جميع سفن الأسطول العثماني في البحر الأسود؛ مما اضطر بريطانيا وفرنسا إلى إرسال أساطيلهما الحربية، إلى البحر الأسود، ومقاتلة الأسطول الروسي هناك قرب قواعده البحرية. في النهاية تمت هزيمة الجيش الروسي في البلقان؛ وكذلك تمت هزيمة البحرية الروسية في معركة سباستبول، وطلبت روسيا إيقاف الحرب، وتم إيقافها، برغبة من بريطانيا وفرنسا. وتم عقد صلح في باريس، تم على إثره منح البحر الأسود لروسيا، مع منع تواجد أي من سفنها الحربية فيه. كما تم مد نفوذ بريطانيا وفرنسا غير المباشر في مناطق من الدولة العثمانية، بحجة رعاية مصالح المسيحيين والأقليات الدينية، والذي أصبح بعد ذلك احتلالا مباشرا بعد الحرب العالمية الأولى.

إذًا فتاريخيا، بقدر ما تخشى دول أوروبا روسيا؛ فهي في نفس الوقت لا تثق بنوايا الأتراك، ولكنها دوماً تتلاعب على التناقضات بين روسيا وتركيا من أجل ترسيخ وحماية مصالحها. فهل تبدل الوضع الآن أم لا؟

قسوة الجيش التركي وشراسته في غزواته في أوروبا، هما اللتان باعدتا حضارياً وثقافياً، بين تركيا وأوروبا؛ وبنفس الوقت، قربها منها. فقد قبلت أوروبا بانضمام الجيش التركي ضمن حلف الناتو لما يتمتع به من قوة وشراسة وتاريخ عسكري مشهود؛ ولكن رفضوا تركيا، في أن تكون إحدى دول الاتحاد الأوربي، حيث لم تنس أوروبا ثاراتها الدامية حضارياً مع تركيا. كان سعي تركيا إلى التحرك غرباً سواء كان حرباً قديمة، أم سلماً حديثاً، من أجل حضارة وتقدم أوروبا وازدهارها اقتصادياً، وهذا ما كانت وما زالت تفتقده وتعتبر نفسها بحاجة إليه. تركيا حتى لو تحركت شرقا، حرباً أو سلما، تفعل ذلك من أجل التقرب للغرب. كما أن روسيا عندما تتحرك للشرق فهي تتحرك ضمن السهول الشرقية الرخوة للغطس في المياه الدافئة، حيث إن توجهها ناحية أوروبا بالنسبة لها شبه مستحيل، كون دولها لن تسمح لها بذلك.

إذاً ما الذي حدث بين روسيا وتركيا؛ هل هو تناقض مصالح، أم تنافس بطولي بين كل من بوتين وإردوغان؟ كلاهما رياضيان في شبابهما، فبوتين كان محترف جودو؛ وإردوغان كان محترف كرة قدم. صاحب رياضة الجودو يعتمد على المجابهة وجها لوجه، بواسطة قوته الذاتية ومراوغته بقوته المشهودة. أما لاعب كرة القدم، فيعتمد على الحركة السريعة والتنقل من مكان إلى آخر، والتمريرات المفاجئة، والمخادعة. روسيا أحضرت صواريخ إس 400 وإس 300، وذلك لصد أي عدوان يأتيها من تركيا. تركيا تفعل كل ما تفعله بالخفية، وتمرر وتكرر وتنكر ما تفعله مثل أي لاعب كرة قدم مخادع، يبحث عن تسجيل أهداف سريعة.

بوتين خريج جهاز الأمن الروسي، وكان ضابطا في استخبارات الاتحاد السوفيتي. بينما إردوغان خريج الأحزاب الدينية السياسية، التي تتحرك ضمن بيئة علمانية شرسة، وعليه فالمخادعة والسرية، جزءان من العمل في صفوف الجماعات الإسلامية الحركية، وأكثر من يجيدها أفراد جماعة "الإخوان المسلمون". إردوغان يضرب ويحرك ويدعم بكل ما أوتي وينكر ذلك، بينما بوتين، كرجل ذي حس استخباراتي، يكشف ذلك ويفضل الاحتفاظ به للوقت المناسب.

إذًا فالاحتقان القائم بين روسيا وتركيا، ليس صراعا استراتيجيا بالدرجة الأولى قد يؤدي إلى صدام مسلح بينهما، وإنما مبارزة بين رياضيين، كل منهما يستخدم مهاراته الخاصة برياضته التي أتقنها. والدليل أن تركيا تحاول امتصاص الغضب الروسي في كل ميدان، بينما روسيا تحركت للعقاب الاقتصادي واستعراض قواها الدفاعية، من أجل تسجيل نصر ولو بالنقاط، كما في لعبة الجودو، حيث لا مجال للضربة القاضية هنا.