فتح الفوز بجائزة الملك فيصل العالمية في دورتها الـ38 الباب لإنجاز مشروعات بحثية جديدة لعدد من الفائزين بها، حيث ذكروا في أحاديث لـ"الوطن"، أن الجائزة ليست تكريما فقط، بل هي محفز كبير لإنجاز أفكار جديدة في مختلف العلوم والآداب. فعلى الرغم من بلوغه السبعين من عمره يقول الفائز "مناصفة" بجائزة فرع اللغة العربية والأدب الدكتور محمد مفتاح: "إن الجائزة تعيد الاعتبار للنقد، وتمنحني طاقة جديدة، وأنا قد تجاوزت السبعين عاما، لكي أشتغل على علم الأصول الذي اعتبره أعظم علم عربي إسلامي". أما الفائز الآخر بالفرع نفسه الدكتور محمد عبدالمطلب فيرى أن "الحصول على جائزة الملك فيصل العالمية هو بمثابة جائزة للشعر العربي". بدوره، يؤكد الفائز بجائزة الدراسات الإسلامية الدكتور يوسف الغنيم أن لديه "أفكار كثيرة لاستقراء المخطوطات في تحقيقاتها الجديدة التي تضيف الكثير من النصوص التي لم يتنبه لها المحققون السابقون".


مفتاح: عادت طاقتي لإنجاز محكم ومتشابه القرآن

كان الناقد المغربي الدكتور محمد مفتاح يجول أول من أمس في الشارع، تاركا هاتفه الجوال في البيت، وحين عاد إليه وجد مكالمات فائتة من الرياض، وحين اتصل، حمل له الرد البشرى بفوزه بالجائزة.

 "تلقيت الخبر وفرحت جدا"، هكذا عبر مفتاح لـ"الوطن" متحدثا عن سروره بفوزه بالجائزة في الفرع الذي حجبت جائزته في السنوات الأخيرة، ويعلق قائلا: الحجب كان في محله، لقد فعلوا خيرا، إذ لم تكن هناك أبحاث تستحق، وأنا مدين لهذه الجائزة، وللقائمين عليها، لأنها تعيد الاعتبار للنقد، وتمنحني طاقة جديدة وأنا قد تجاوزت السبعين، لكي أشتغل على علم الأصول الذي اعتبره أعظم علم عربي إسلامي، إذ لدي مشروع يحمل عنوان (قراءة جديدة لعلم الأصول).

وأضاف/ متحدثا بنبرة ابتهاج: بطبيعة الحال كأي بشر أعتبر منحي الجائزة تشجيعا لي، وبمجرد سماعي للخبر، قلت لنفسي إني سأخطط لإنجاز بحث جديد أيضا يبحث في (محكم القرآن ومتشابهه).

 وتناول مفتاح في حديثه إلى "الوطن" راهن النقد العربي، معترضا على مقولة "موت النقد" بقوله: النقد لن يموت ما دامت الحياة موجودة، فقط يتوجب علينا تجديد مفهوم النقد، ما نحتاجه هو بروتوكلات خارطة طرق يسير في ضوئها المحللون للنص، فما نقرؤه في النقد العربي الآن مجرد انطباعات، وإن كان العالم العربي لا يخلو من نقاد ممتازين في معظم أقطاره، لكن يبقى النقد مفهوما إشكاليا، بالضرورة يحتاج إلى مراجعة، فهو ظهر في عصر التدوين العربي الإسلامي، متأثرا بعلم الحديث، مرتبطا بالروايات العربية للحديث، تحت حمولة "تمييز الصحيح من السقيم"، بينما الأدب متحول ومتغير، وفي تقديري أنه يجب على الناقد أن يدرسه 14 سنة، ليتخصص فيه مثله مثل الطبيب. 

 النقد علم من العلوم مستقل بذاته، فالشاعر يقول قصيدته، والناقد يقول قوله بحيث لا تكون القصيدة إلا مؤشرا، مؤشر / علامة يترك لك الحرية لبناء عالم خاص، يجب أن يكون مؤسسا على افتراضات وتمحيصات وتطبيقات وفكر وفلسفة وتوجه، فالناقد الحقيقي لا يهتم بالنص الشعري لأجل النص الشعري، أو اللغة لأجل اللغة، وإنما يكون يحمل وجهة نظر معينة.

وحول اعتماد النقد العربي في العقود الأخيرة على المنتج الأجنبي / الغربي قال مفتاح:

هناك 3 مراحل لا بد من الالتفات إليها عند مقاربة هذه الإشكالية، أولها المفاهيم العامة الإنسانية، الكونية، وثانيها، أن ننظر إلى الثقافة والنقد من منظور ما نسمية "الأحواض الثقافية"، التي كانت تتمثل في الجزيرة العربية، والشام، وبلاد الإغريق، والعراق بما فيه من الأكاديين والآشوريين، مع بعض الخصوصيات، وبعض الكليات الإنسانية، فقوانين البلاغة في أستراليا وأميركا مثلا هي نفسها قوانين البلاغة في البلدان العربية وغيرها.

لا يمكن أن نقول هذا معطى نقد غربي، هذا نقد عربي، لأن أسس البلاغة والمنطق مشتركة بيننا، نحن ورثة ما يستخدم هناك، لنا الحق في ذلك، لأن هذه الثقافة التي نتحدث عنها تنتمي إلى البابليين والآشوريين والمصريين والإغريق والروم، أي هذا المجال الذي نسميه في اختزال مجال البحر الأبيض المتوسط، وهذا يعني أنه لا فرق، تلك المفاهيم التي جمدت عندنا وجدت تربة خصبة عندهم فطوروا، فإذن يجب رفض العرقية، والإيمان بالكليات البشرية، لا فرق بينك وبين الصيني والأميركي أو غيره، مع بعض الاحتياط أن أقصى آسيا له بعض الخصوصيات. أما ثالثها فهي مرحلة الخصوصيات.


الغنيم: الفوز محفز على البحث في الجغرافيا الإسلامية

وصف رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية الدكتور يوسف الغنيم فوزه بأنه تتويج لجهود بذلها طوال حياته لخدمة العلم والمعرفة. وقال لـ"الوطن" أمس: فوز كهذا يتوقع أن يكون فيه نوع من الإشارة لتلك الجهود وأهميتها، ومعناها أن عمل المرء مقدر واستفاد منه الناس. وكون الجائزة تأتي من جهة لها مكانتها العالمية، ولها وزنها، تمثل بالنسبة لي شيئا أعتز وأفتخر به، وأقدر القائمين على الجائزة، وأشكرهم على جهودهم.

وجاء في حيثيات فوز الغنيم بالجائزة، الإشارة إلى أعماله في الجغرافيا عند المسلمين، تأليفا وتحقيقا وبحثا، وهنا أكد الغنيم لـ "الوطن" أن علم الجغرافيا على المستوى العربي في تطور مستمر ولم تعد الجغرافيا مجرد وصف للأرض، بل تحولت إلى علم تحليلي مفيد، وأن النظم الكمية التي تبرز في هذا المجال جعلت منه علما حيويا.

ورفض الغنيم مقولات انتهاء علم الجغرافيا التي تروجها بعض الأقلام في العالم العربي، نافيا، منبها إلى أن الجغرافيا لم تعد علما نظريا لا حاجة لنا به، مؤكدا أن هناك أمور كثيرة يقوم بها الجغرافي في التخطيط للمدن، والجغرافيا تمكننا من امتلاك نظرة شمولية للظواهر البيئية المحيطة بنا، كما أن الجغرافي يأخذ من علوم الجيولوجيا والاجتماع والاقتصاد، وأكثر من علم، بحيث تكون رؤية شمولية لمعالجة أشياء غير مدركة للواقع، كما أن جامعات العالم العريقة بها كليات مستقلة لعلم الجغرافيا، فكيف نطالب بإلغاء هذا العلم عربيا، علينا أن نطوره ونواكب المستجدات فيه. ونستمر في دراساتنا وأبحاثنا الميدانية.

وسبق للدكتور الغنيم إجراء العديد من الدراسات الميدانية في الصحراء الأردنية وشملت كامل الأراضي الأردنية خلال يوليو وأغسطس 1974، وفي صحراء السعودية عبر رحلات من حائل شمالاً إلى منطقة جازان في الجنوب شاملة مناطق نجد والحجاز وأجزاء من الربع الخالي ثم المنطقة الوسطى والغربية من المملكة، وفي الأحساء والدهناء والصمان نفذ دراسة ميدانية بصحبة طلبة مقرر إقليم خاص، وذلك للتعرف على أشكال سطح الأرض هناك، والدراسة المباشرة لجهود الإنسان في تعامله مع الطبيعة من خلال زيارة مشروعي الري والصرف وحجز الرمال بالأحساء، وتضمنت الدراسة أيضاً دراسة أنماط من الكثبان الرملية ذات الأصل البحري (على الطريق بين الهفوف والعقير) وذات الأصل القاري في منطقة الدهناء، كما قام بدراسات ميدانية أخرى منفردة أو مع طلبة قسم الجغرافيا في فترات متباعدة إلى اليمن والإمارات وعمان وقطر والبحرين.

وعن تأثير الجائزة في مستقبل دراساته وأبحاثه العلمية قال الغنيم: مثل هذا الأمر يعطيني دافعا أكبر للاستمرار في البحث العلمي، ومواصلة معالجة كثير من القضايا التي توقفت، وبصورة خاصة في التراث الجغرافي الإسلامي، ومراجعي المخطوطات، وإعادة النظر في تحقيقها، حيث لدي مشروع مشترك مع الدكتور عبد العزيز المانع لمراجعة كتاب (معجم ما استعجم) لأبي عبيد البكري. ولدي أفكار كثيرة لاستقراء المخطوطات في تحقيقاتها الجديدة، التي تضيف الكثير من النصوص التي لم يتنبه لها المحققون السابقون.


عبدالمطلب: الجائزة أكبر رد على من يصفنا بالتخلف

عبر الدكتور محمد عبد المطلب، أستاذ البلاغة في كلية الآداب بجامعة عين شمس، عن سعادته بالفوز، وقال عبدالمطلب أمس لـ"الوطن": الحصول على جائزة الملك فيصل حمل كثيرا من المعاني أهمها أنها جاءتني من الأرض المقدسة، وفي هذا وحده تشريف ما بعده تشريف، كما أنها تحمل اسم الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز، الذي أكن له احتراما كبيرا وتقديرا عظيما لمواقفه التي لم ولن ينساها التاريخ، حيث يعتبر من أعظم رجالات العرب في تاريخهم الحديث.

وأضاف "جائزة الملك فيصل العالمية تكتسب ميزة كبيرة تتجسد في أنها تعطي للعالم صورة على انفتاح العرب والمسلمين على الحضارات كلها دون الوقوف عند عتبات الحضارتين الإسلامية والعربية، حيث تمنح للعربي وغير العربي، وتمنح للمسلم وغير المسلم، ما يعد ردا عمليا بليغا على من يهاجمون العرب والمسلمين ويحاولون زورا وسمهم بالتخلف والرجعية والإرهاب والانغلاق على الذات والتقوقع بعيدا عن تطور العالم". وأشار عبدالمطلب إلى أن "تخصيص الجائزة للشعر يعد تأكيدا على أن الشعر هو ديوان العرب، والحاضنة الثقافية للحضارة العربية وللتاريخ العربي، مما يعيد للشعر العربي مكانته، ويمثل ردا عمليا على من يحاولون سحب البساط من تحت أقدام الشعر لصالح الراوية والقصة وغيرها من فنون الأدب، وتأكيدا على أن الشعر ما زال المعبر عن نبض الحضارة العربية والقادر على تسجيل تاريخها الحديث كما كان شاهدا ومسجلا للتاريخ العربي منذ العصور الجاهلية، مما يعني أن جائزة الملك فيصل العالمية في دورتها الحالية أعادت إلى الشعر العربي مكانته التي سعى البعض إلى التقليل منها، فهي بمثابة تتويج للشعر العربي والثقافة العربية والانفتاح على ا?خر، أيا كانت جنسيته أو حضارته أو ديانته أو خلفيته الثقافية".

وأنهى عبدالمطلب كلامه بأن "الحصول على جائزة الملك فيصل العالمية بالنسبة لي هو جائزة للشعر العربي، حيث حملت الجائزة في طياتها تأكيدا على أنه بالرغم من أن هناك أجناسا أدبية كثيرة ظهرت تنافس الشعر مثل القصة والرواية والمسرحية والتراجم، إلا أن الشعر وحده، بين هذه الأجناس، هو الذي ينتمي إلى الأدبية أولا وأخيرا، بينما تنتمي باقي الأجناس إلى الدرس الاجتماعي بالدرجة الأولى ثم تنتمي بعد ذلك إلى الدرس الأدبي، ومن ثم مهما حاولت الرواية أو القصة أن تقدم تحولات الواقع العربي وتقلبات المجتمع العربي، فإن هذه التحولات ستظل في الإطار الخارجي، أما التحول الداخلي للذات العربية وللشخصية العربية، فسيظل الشعر هو الحامل لهذه المهمة بالدرجة الأولى".