حينما توفي الروائي الأميركي "راي برادبيري" قبل 3 سنوات أوصى ابنته "الكسندرا" أن تحفر مؤلف "فهرنهايت 451" على شاهد قبره! عرفاناً وتقديراً للرواية التي حققت شهرته، ودفعت به إلى الصفوف الأمامية.

هذه الرواية التي تحوّلت إلى إحدى أبرز كلاسيكيات الأدب العالمي خلال النصف الثاني من القرن الماضي؛ لم تكن سوى نتيجة تلقائية لسنوات دؤوبة من القراءة والكتابة والتجربة التي لم تتوقف يوماً واحداً، فلم يكن مجرد كاتب هاوٍ يقضي وقت فراغه في الكتابة، بينما يكسب رزقه من موارد أخرى، بل كانت الكتابة محور حياته وبهجة روحه وكل شيء تقريباً، ولكن كيف له أن ينتج شيئاً مختلفاً؟ شيئاً يمنحه عضوية نادي عظماء القلم؟ وهو يفعل ما يفعله بقية الكتاب؛ يقرأ بجدٍ ويفكر بعمق ثم يكتب!

الخطة كانت واضحةً تماماً، عيبها الوحيدة أنها طويلة الأمد ومنهكة كذلك! إذ إن "برادبيري" ومنذ أن خط أول قصة قصيرة عام 1941 وهو لا يزال طالباً في المرحلة الثانوية؛ اتخذ قراره بضرورة كتابة قصة واحدة كل أسبوع! ليستمر على هذا الإصرار 10 سنوات متتالية، وينجح في تحديه بإنجاز 520 قصة قصيرة مختلفة! ليكون هذا البرنامج المرهق أفضل وسيلة لصقل الموهبة وانتخاب الأفضل.

الشيء الآخر الذي تميّز به ركض "برادبيري" المتواصل أنه استطاع جمع عددٍ لا يحصى من الأفكار المبتكرة، خصوصاً وأنه تخصص في فرع "الخيال العلمي"، الذي يعتمد على الفكرة الخلاقة أكثر من الأسلوب والبلاغة اللغوية، وهو ما يمكن ملاحظته في قمة رواياته: "فهرنهايت 451" الزاخرة بأفكار مستقبلية متعددة نجدها اليوم واقعاً معاشاً، مثل أجهزة الصراف الآلي، شاشات التلفاز المسطحّة، سماعات الأذن لأجهزة الأيبود وغيرها، والغريب أنه سئل في مقابلة شخصية عن كيفية تكهّنه بكل هذا في كتاب واحد؟ فأجاب أنه يستخدم خياله عندما يكتب، وقال "شخصياتي قامت بكتابته، كل الأفكار جاءت منهم! وعندما تتحدث شخصياتي أستمع لها جيداً" على حد تعبيره.

الشيء الآخر الذي يكاد يكون سبب نجاح مسيرته الإبداعية هو اتباعه نظام كتابة بالغ الشدة، ففي العشرينات من عمره التزم "برادبيري" هذا البرنامج الأسبوعي الصارم: صباح يوم الاثنين يكتب المسودة الأولى لقصة جديدة، ثم يوم الثلاثاء المسودة الثانية للقصة نفسها، ثم يوم الأربعاء المسودة الثالثة، ثم الرابعة يوم الخميس، ثم الخامسة يوم الجمعة، حتى ينتهي من النص ظهر السبت حينها يرسلها إلى ناشره في نيويورك، ونظراً لحالته الاقتصادية وتفرّغه للكتابة فلقد كان ملتزماً بهذا البرنامج طمعاً أن يفوز ببيع قصة أو اثنتين من محاولاته الأسبوعية كل شهر، حتى يستطيع الحصول على 20 أو 40 دولارا تمكّنه من العيش على السجق والشطائر والمعلبات.

ولك أن تتصور أن رواية "فهرنهايت 451" كتبها "برادبيري" خلال 9 أيام فقط! كان يذهب فيها إلى مكتبة جامعة كاليفورنيا صباحاً بالحافلة ويعود إلى منزله ليلاً، وبالطبع فإن مخزونه المعرفي المتراكم المبني على قراءة واسعة النطاق، واستمتاعٍ بمتع الحياة المتنوعة، ومسودات قصصه المتعددة؛ مكنّه من إنجاز أيقونته بكل سلاسة، والرائع في الأمر أن اختياره لموضوع الرواية -وإن كان ردة فعل غير مباشرة للمرحلة الماكارثية- إلا أنها كانت مرتبطة بحبه لمنتجه النهائي: الكتاب، فهي تشير إلى درجة الحرارة التي يشتعل فيها ورق الكتب، وذلك حينما نجد أنفسنا في المستقبل تحت رحمة نظام سلطوي شمولي، يعتمد على الصورة التلفزيونية كأسلوب دعاية سياسية مباشرة، ويطلق رجال الإطفاء لملاحقة الكتب ثم حرقها، مما يخلق مناخ إرهاب ثقافي مروّع، ونزعة نحو تسطيح الفكر، ومحاربة العقل الجدلي الحر.

لم يكن "برادبيري" مختلفاً عن مجمل الكتّاب والروائيين من ذوي الموهبة والإبداع، لكنه استطاع التفوّق عليهم والدخول إلى قائمة الأدباء العظماء لأنه آمن أن الكتابة ليست مجرد عمل روتيني ممل؛ بل عملية إبداعية تحتاج إلى جهد بدني، "تحتاج أن يضع الفنان فيها من دمه ولحمه"، ليس هذا وحسب بل من الضروري -فوق ذلك- أن يستمتع بها كمزحة أو مغامرة مدهشة، وهو ما يمكن أن نلمسه في بقية ما كتب "برادبيري" من روايات وقصص، التي حتماً كانت نتاج أكثر من 520 محاولة، انتخب منها الأفضل، ليضيف وحده إلى التراث الإنساني: 13 رواية و400 قصة قصيرة، تستحق القراءة والاستمتاع.