أعرف أن الحديث عن الإنجازات العلمية المحلية أضحى مثيرا للارتياب، خصوصاً مع تكرار قصص سيارة "غزال" ومثيلاتها في مختلف الجامعات والمعاهد السعودية، والتي يكتشف بعد حين أنها مجرد مبالغة علمية وفرقعة إعلامية، أو حتى إنجازات المبتعثين التي لا يصدح بها سوانا! لكن دعونا نركز هنا على إحدى أهم التقنيات، والتي ملأت إعلامنا بكثير من الوعود والعجيب من الأحلام وهي تنقيات النانو، ولنطرح سؤالنا -ونحن نقترب من عامنا العاشر في تقنيات النانو- هل توجد نجاحات سعودية حقيقية في هذا المجال؟

الجواب: نعم! صدّق أن هناك نجاحات مبهرة وإضافات معتبرة للبحث العلمي؛ لكنها لم تعد تظهر في وسائل الإعلام المحلية، إما خوفاً من عدم التصديق والاهتمام بسبب ما حدث قبل سنوات من بهرجة دعائية وزخم إعلامي واسع، أو بسبب ابتعاد الإعلام والناس عنها وفقد الأمل منها، فهناك مثلاً معهد الملك عبدالله لتقنية النانو الذي تأسس عام 1428 في جامعة الملك سعود، والذي خلال 9 سنوات استطاع بناء وتشكيل عدة مجموعات بحثية متخصصة في مجالات حيوية مختلفة، مثل الطاقة، وتحلية المياه، التطبيقات الصحية، وهذه المجموعات كانت تعمل بصمت خلال السنوات الماضية على تطوير المواد النانوية وربطها بالتطبيقات المختلفة.

فمثلاً في مجال تحلية المياه، وهو الموضوع المهم لحاضرنا ومستقبلنا يعمل الباحثون –حالياً- على إيجاد أغشية بوليمرية مطعّمة بمواد نانوية بهدف تحسين كفاءة عملية إزالة الأملاح وخفض الكلفة التشغيلية لتلك الأغشية، إضافة إلى إطالة عمرها التشغيلي وتقليل مشكلة تضررها وفسادها. وهو ما سوف يساعد على تخفيض فاتورة تحلية المياه في المملكة والتي تتضاعف عاماً بعد عام، ويخفف الأعباء عن محطات التحلية الذي تجاوز بعضها عمرها الافتراضي! إضافة إلى ذلك فقد طور الباحثون الألياف البوليمرية المفرّغة والمغطاة بطبقة من أكسيد التيتانيوم النانوي لاستخدامها في تقنية الترشيح النانوي. كما يتم العمل أيضا على تطوير جيلٍ جديدٍ من الأغشية، كتقنية تحلية المياه بالتفريغ، وتقنية التناضح الاسموزي الأمامي.

لكن ما الذي يمكن أن تقوم به المواد النانوية في العلوم الصحية؟ بالطبع هناك كثير من الأفكار، ومنها فرصة استخدامها كحاملات للأدوية. وهو ما استطاعت إحدى المجموعات البحثية السعودية في المعهد تحضيره، وذلك بتطوير مواد نانوية يحتوي لبها على مادة ذات خصائص مغناطيسية، بينما يتكون الغلاف من أكسيد السيليكون المسامي. بحيث تحمل الدواء في الغلاف المسامي بينما يعمل اللب المغناطيسي على توصيله بشكل مستهدف لأي عضو في الجسم تحت تأثير المجال المغناطيسي الخارجي. وكذلك فكرة تطوير كريات نانوية ذات لب من حبيبات الفضة أو سبيكة الفضة -الذهب وغلاف السيليكا المسامي، وتمتاز تلك الكريات النانوية بالقدرة على قتل خلايا السرطان بوسيلتين متزامنتين! وهما تأثير الضوء الحراري المنبعث من اللب والتأثير العلاجي للدواء الكيميائي المعبأ بمسام الغلاف.

دون أن نُغفل تطبيقات النانو في تطوير خلايا الطاقة الشمسية، مثل خلايا البيروفيسكايت، أو الخلايا الشمسية الصبغية، أو حتى خلايا النقاط الكمية، حيث يقوم خبراء المعهد إضافة إلى طلاب الماجستير والدكتوراه بتطوير مواد نانوية ذات فعالية كبيرة في امتصاص الطيف الشمسي، وكذلك تطوير أنظمة نقل كهربائي فعالة عبر التحكم في الأشكال النانوية لمواد النقل وفي خصائصها الفيزيائية الأخرى، بما يحقق كفاءة نقل كهربائي أفضل، وذلك لتجاوز أحد أكبر معضلات كفاءة الخلايا الشمسية حالياً.

ما سبق كان أمثلة من إنجازات علمية سعودية حقيقية لم تجد طريقها إلى وسائل الإعلام، ولم يظهر مبدعوها ليل نهار في منصات الاتصال الاجتماعي، الأمر الذي يؤكد أن لدينا جيلاً مبدعاً من العلماء والباحثين السعوديين الحقيقيين، ممن يعمل بصمتٍ ودون البحث عن الظهور الإعلامي، إذ إن الأصل هو أن يبحث المحرر العلمي في الوسيلة الإعلامية عما يحدث في المعامل ومراكز الأبحاث وليس العكس، وهو ما يؤكد عليه دوماً الدكتور أوس بن إبراهيم الشمسان "عميد معهد الملك عبدالله للنانو"، الذي يؤمن بأن الإنجاز وتحقيق إضافة حقيقية لمسيرة البشر العلمية أهم وأولى من ملاحقة وسائل الإعلام بمعلومات تؤثر سلباً على مصداقية البحث العلمي ورجاله.

نحن اليوم مطالبون بمزيد من بث هذه الروح العلمية الصادقة في أروقة مراكز البحث والجامعات السعودية، فمتى آمن الباحث السعودي بأن جهده سوف يصل ويعرف بالطريقة والمستوى المناسب، وأن أصحاب الإنجازات الفارغة والأبحاث الورقية سوف يتم تجاهلهم؛ حتماً سوف يبدع ويركز في عمله، وسوف نفخر جميعاً بمنجزه.