من الذي يفرز لنا البطل من غير البطل؟ إنه ميدان البطولة، وكما قيل في مثلنا الشعبي الدارج "الميدان يا حميدان". وبما أن الميادين لدينا، ولوقت قريب جدا، كانت مغلقة أمام ولوج النساء إليها؛ فمن الطبيعي ألا يعرف أحد مَن منهن، البطلة مِن غير البطلة كما نعلم ذلك يقينا، مَن البطل وغير البطل مِن الرجال أصحاب الميدان؟ ولكن لعدم الإجحاف في حق تراثنا الإنثروبولوجي، فقد كان آباؤنا وأجدادنا، وإلى وقت قريب، يستطيعون بحدسهم الذكي والحكيم، الفرز بين المحتمل بأن تكون بطلة من غيرها من النساء في محيطهم الأسري الضيق، حتى ولو لم يتح لها المجال لولوج الميدان لتثبت لهم بأنها كذلك أو غير ذلك. ولم يأت لديهم ذلك الحدس من فراغ؛ وإنما من خبرتهم المتواصلة والمتراكمة التي اكتسبوها بفضل ولوجهم المتكرر والمتواصل لساحات الميادين وخوض غمارها والمنافسة فيها.

ولذلك فقد أصبحوا بحدسهم التراكمي يستطيعون لمس قابلية الاستعداد الطبيعي لدى الأنثى القريبة منهم، لتسطير البطولات، بل والملاحم؛ لو أتاحت لها الظروف النزول للميدان، وخوض غمار التنافس فيه مع غيرها من النساء أو حتى من الرجال، وإثبات ذاتها البطلة أمام الجميع. ولهذا السبب، كان الأبطال منهم، عندما يحمى وطيس التنافس في ساحات الميادين، بينهم وبين الأبطال الآخرين الذين لا يقلون عنهم بطولة ومجالدة؛ ينتخي أحدهم باسم أخته، كونه أخا فلانة؛ دون غيرها من أسرته ذكورا كانوا أم إناثا، وذلك ليرفع معنوياته، ومعنويات من معه، للصمود ورفض الهزيمة، ثم الاستعداد للهجوم الكاسح الذي ينهي الجولة لصالحه ومن معه. ويعني هذا أن الأنثى البطلة، حتى ولو كانت مغيبة عن ساحات الميادين، فروحها كانت حاضرة مع الرجال الأبطال جنبا إلى جنب، تنافس وتصارع معهم، والذين لا يسطرون البطولات بدون استحضار روحها البطلة معهم، كسلاح معنوي، أمضى وأكثر خطورة من أسلحة المنافسة الميدانية الحديدية والفولاذية والنارية.

وخير شاهد، على ما ذكرته أعلاه، هو البطل الأسطوري الذي عرف بساحات الوغى، وميادين القتال والمجالدة، "أخو نورة"؛ والذي حين يستحضر روحها معه -روح أخته نورة- يعلم يقينا من هم معه، ومن هم ضده، أن المعركة قد حسمت لصالحه، أو في طريقها للحسم. إنه الملك الموحد والظافر، عبدالعزيز بن عبدالرحمن، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وأخته هي الأميرة نورة بنت عبدالرحمن آل سعود، رحمها الله وأسكنها مع أخيها في عليين، كما سكنت روحها معه، في ميادين توحيد المملكة، التي دامت وطالت لأكثر من ثلاثة عقود، دون كلل أو ملل منه؛ حتى جاء النصر المبين، على يده وروح أخته، لهذا البلد الأمين. ولذلك فليس من المستغرب أن تسمى أكبر جامعة بنات في العالم، وفي التاريخ أيضا ولدينا، باسم نورة بنت عبدالرحمن، عل طالبات وخريجات الجامعة يستلهمن من روحها البطلة، قبس النصر والخلود. فبلدنا أحوج ما يكون للمزيد من أرواح بطلة مثل روح نورة، وهمة وبطولة أخيها عبدالعزيز في هذا الوقت المصيري، العصيب، الذي يتطلب منا رجالا وإناثا؛ استحضار كل ما نملكه من قوة وهمة وإخلاص، لمواصلة طريق النصر والتقدم والتمكين في كافة الميادين.

وبعد توحيد المملكة وتأمينها على يد المؤسس، أكمل أبناؤه البررة له وللبلد، بناء صروحه التنموية الشامخة؛ وجعلوه ينافس وبفخر كثيرا من الدول التي سبقتنا في تاريخ التأسيس ومجال التقدم والتمكين بقرون. وتدرج لدينا التطور، من تطوير البنى التحتية الأسمنتية والصناعية والتقنية والإدارية المؤسساتية؛ إلى تطوير البنى الإنسانية الفوقية الفاعلة. لقد أتى بناء البنى التحتية والإدارية المؤسساتية والقانونية؛ قبل البنى الإنسانية، وذلك لكون بناء أكبر مبنى في البلد، أو أطول طريق فيها، قد يستغرق ما بين 3 إلى 5 سنوات؛ ولكن بناء الإنسان الواحد ليصبح إنسانا راشدا يحتاج إلى 25 سنة أو أكثر، فما بالنا، بشعب بأكمله. نجحت لدينا بنى وطننا التحتية، وكذلك الآن، بنى وطننا الإنسانية الفوقية.

وكتدشين للاحتفال بنجاح بنيتنا الإنسانية الفوقية؛ أتت الانتخابات البلدية الثالثة والتي يميزها عن سابقاتها، مشاركة المرأة فيها كمرشِّحة ومرشَّحة. ودليل على شمول بناء الإنسان ونضوجه لدينا، هو أن الانتخابات البلدية الأخيرة شملت جميع مواطني هذا البلد، ذكورا وإناثا جنبا إلى جنب. وهنا تفتحت بعض الميادين أمام المرأة على مصراعيها؛ لتسهم فيها بروحها وعقلها وجسدها في عملية صناعة القرار ومتابعة تنفيذه. وهنا نستطيع أن نقول وبفخر "الميدان يا حميدانة ويا حميدان". ولن يكون هذا صعبا على المرأة أبدا؛ حتى ولو كانت مغيبة جسديا عن الميدان، فقد كانت حاضرة فيه روحها وبكل قوة وجدارة، منذ قرون.

والدليل على ذلك، مشاركة المرأة بكل قوة وجدارة، وعدد وعدة، في الانتخابات البلدية الأخيرة والتي تكللت بنجاحها في حصدها 19 مقعدا فيه، ومن جميع أرجاء المملكة. إن عدد المرشَّحات فاق 900 مرشحة؛ وهذا العدد مرضٍ جدا مقارنة مع انتخابات تجري في بلدان سبقتنا في الانتخابات بحوالي قرن أو أكثر. كما أن النتيجة التي حصلت عليها المرشحات كانت مرضية جدا كذلك، كونها أول مرة تدخل المرأة الانتخابات لدينا، مع أن الرجل لم يسبقها إلا بحوالي 10 سنوات. بينما في بعض الديموقراطيات العريقة سبق الرجل المرأة في الترشح والترشيح في الانتخابات، لقرن من الزمان وأكثر. وعندما سمح للنساء الغربيات بدخول الانتخابات أخذتهن عقود طويلة، ليكون عددهن مقبولا في هذه البرلمانات. وقد يكون ذلك نتيجة لعدم حضور روح المرأة الغربية، جنبا إلى جنب، مع الرجل في الميادين؛ أي أن روحها لم تسبق جسدها في ولوج غمار الميادين، كما هي المرأة السعودية.

كان لي الشرف أن تكون شقيقتي الجوهرة إحدى المرشحات في انتخابات المجلس البلدي في مدينة بريدة. وكان لي الشرف أيضا أن أشاهد وألمس مدى الجهد والهمة والبذل والعطاء الذي بذلته في حملتها الانتخابية. صحيح أنه لم يحالفها الحظ هذه المرة للفوز بمقعد في المجلس البلدي؛ ولكنها وبكل جدارة فازت بحب وتعاطف جميع من هم حولها من أقارب ومعارف، من بداية حملتها الانتخابية حتى يوم إعلان النتائج. ومن الجدير ذكره، أنها قضت وقتا وجهدا طويلا ومضنيا في تثقيف من هم حولها من النساء وحتى الرجال، بأهمية ممارسة حقهم الطبيعي في التصويت لمن يعتقدون أنه يستحق تمثيلهم في المجلس البلدي، عن طريق تسجيل أسمائهم في قيد الناخبين؛ ليتسنى لهم ترشيح من يرونه مناسبا لتمثيل مطالبهم وطموحاتهم، من أجل جعل حياتهم وتحركهم في مدينتهم أكثر راحة ويسرا وسهولة.

يكفي أن جميع المرشحات، زميلات الجوهرة، واللواتي فزن واللواتي لم يحالفهن الحظ؛ كلهن قد فزن بتمهيد الطريق والمشاركة لبناتهن وحفيداتهن والأجيال القادمة من بنات الوطن، وهذا شرف لا يوازيه أو يعادله شرف. إنه شرف النصر والريادة. كنت أعلم أن أختي الجوهرة تحمل مقومات البطولة والقدرة على التضحية والعطاء، ولو كنت شجاعا ومقداما، وممن يخوض غمار المنافسات في الميادين، كالأبطال؛ لصرخت بأعلى صوتي "وأنا أخو الجوهرة".