في يوم عمل عادي فاجأ رائد الأعمال الشاب "دان برايس" البالغ من العمر 31 عاماً موظفيه قبل مستثمري شركته بتخفيض راتبه السنوي من مليون ومائة ألف دولار إلى 70 ألف دولار فقط! ليس هذا وحسب، بل تجاوز ذلك إلى رفع رواتب موظفيه إلى أرقام فلكية!

بدأت فصول هذه القصة المثيرة قبل ما يزيد على العام، حينما عرف مؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Gravity Payments أن اثنين من موظفيه المبتدئين قد رشحاه لنيل جائزة رائد أعمال الإعلام لعام 2014، وكانا سبب نيله الجائزة، مما جعله يفكر في أن هذين الموظفين قد فعلا أكثر مما فعل هو ودون أن يطلب منهم أحدٌ ذلك! يقول (برايس): "كان شابان يتلقيان أجراً منخفضاً وجعلاني أنا من يتلقى مليون دولار كأجر سنوي أن أظهر على غلاف مجلة رواد الأعمال"! بعد ذلك وفي أبريل الماضي، وقعت عينا الملهم "برايس" على دراسة مسحية عن السعادة نشرت قبل 5 سنوات، أجراها "دانيال كانيمان" و"أنجوس ديتون" اعتماداً على البيانات الضخمة لمنظمة "جالوب" لقياسات الرأي العام والإحصاءات التي حاولت دراسة تأثير الدخل على عاملين اثنين من عوامل السعادة الشخصية: الأول الرفاه العاطفي، والثاني مستوى جودة الحياة، فالرفاه العاطفي يشير إلى جودة العواطف في تجربة الفرد اليومية، مثل مدى تكرار وكثافة كل من: الفرح والتوتر والحزن والغضب والمودة، التي تجعل حياة الإنسان سارة أو غير سارة، أما تقييم مستوى الحياة فهو يشير إلى أفكار الإنسان عن حياته حينما يفكر بها، وكان سؤال الباحثين يتمحور حول إمكانية أن يشتري المال السعادة الناتجة عن هذين العاملين؟ وقاما بتحليل إجابات 450 ألف شخص من قاعدة البيانات، ووجدا أن الرفاه العاطفي وتقييم جودة الحياة لهما ارتباطات مختلفة بالعوامل الأخرى، فمثلاً تقييم جودة الحياة يرتبط بالدخل والمستوى التعليمي بشكل أكبر، بينما تؤثر الصحة، والوحدة، والتدخين بشكل أكبر على مشاعرنا اليومية "الرفاه العاطفي"، وبالطبع فإن الزيادة المطردة في الدخل "الأجر الشهري" تؤدي إلى زيادة مطردة في هذين العاملين، بيد أن المثير هنا أن هذا التزايد "السعادي" يتوقف حينما يصل الدخل السنوي إلى سقف 75 ألف دولار "أي حوالى 22 ألف ريال شهرياً"، ويبقى دون زيارة حتى مع ارتفاع الدخل!

هنا قرر "برايس" أن يكون سبباً في سعادة موظفيه الـ120، وأن يضرب عصفورين بحجر واحد، فالدراسة تؤكد أن فعالية وسعادة موظفين تكون في أعلى درجاتها حينما يناهز الأجر السنوي سقف 75 ألف دولار أميركي سنويا، وعلى الفور اجتمع رائد الأعمال الشاب بموظفيه وأعلن رفع حد الأجور الأدنى في شركته إلى 70 ألف دولار سنوياً لكل موظف، بدلاً من المتوسط الحالي البالغ حينئذ 41 ألف دولار سنوياً، كما أعلن خفض راتبه هو بنسبة 90 % ليصل إلى هذا المعدل الجديد! والسبب أنه كان بحاجة إلى توفير مورد مالي ليرفع أجور موظفيه، وهو ما حدث بالفعل.

أصيب الجميع بالدهشة، وتصدر "برايس" نشرات الأخبار العالمية، لدرجة أنه ذُكر أكثر من نصف مليار مرة في وسائط الاتصال الاجتماعي، وتلقى 4500 طلب توظيف خلال أسبوع، مما جعل البعض يعتبر ما حدث نقلة محورية في مجال إصلاح هيكل تراتبية الأجور، وكأنما تحوّل "برايس" إلى "روبن هود" المديرين التنفيذين! وهو ما شجع "تامي كارول" على أن تترك وظيفتها كمديرة تنفيذية في "ياهو" وتلتحق بالعمل معه بأجر يقل عن أجرها السابق بـ80 %! بيد أنه مضى في خطته لا ليحول موظفيه إلى أثرياء بين ليلة وضحاها؛ بل ليجعلهم يحصلون على ما يعتقد أنه الأجر العادل لحياة قابلة للسعادة والمتعة.

في مقابل ذلك استقال اثنان من مديري الشركة، بدعوى أن القرار غير عادل وأنه يساوي بين الموظفين "المهمين والأقل أهمية"، على حد تعبيرهم، كما أن أخاه الأكبر -وهو شريك في الشركة- رفع دعوى قضائية ضده، لكن "برايس" لا يزال عنده موقفه، فهو مؤمن بأن السعادة كما النجاح من الممكن مشاركتها، وأن أولى مسؤوليات أي مدير هي أن يحرص على أن يهيئ البيئة المناسبة لفريق عمله، وحتما أن أي بيئة تبدأ بالأجر المجزي، الذي يتجاوز الموظف إلى عائلته ومحيط حياته، وبالتالي فإن العائد على العمل أكبر مما نتوقع.

لا يزال يدور جدل كبير حول خطوة "برايس" وأثرها على قوائم الشركة المالية، التي يتوقع أن تظهر خلال 3 سنوات، ورغم أن "برايس" اضطر أخيرا إلى تأجير منزله في "سياتل" ليفي بالتزاماته الشخصية، إلا أنه يؤكد أنه لم يشعر بسعادة كهذه، الشيء الوحيد المؤكد هنا أننا جميعاً بحاجة لمثل هذا المدير السخي، الذي فعل ما عليه وبقي ما على موظفيه.