مطار الملك عبدالعزيز الجديد بجدة في مراحله الأخيرة، ولأنه سيكون درة مطارات العالم، فإنه من غير اللائق أن يباشر مديره في مكتب عادي، لذا قرر رئيس هيئة الطيران المدني تفريغ مكتبه شخصيا ومكاتب مساعديه الخمسة ليتم تكسير جدرانها وجعلها جميعا مكتبا واحدا لمدير المطار الجديد، أما باقي مباني ومكاتب الهيئة فستفرغ كلها لتكون صالة خدمات لمكتب المدير الجديد!!

هذا الإيثار من رئيس هيئة الطيران لم يسبق له مثيل أبدا، فمن هو صاحب المعالي الذي تنازل عن مكتبه لموظف من موظفيه حتى وإن كان بدرجة مدير عام، من هو الذي سجل مثل هذه السابقة التاريخية غير رئيس هيئة الطيران المدني؟

لقد كان المتوقع أن ينقل رئيس الهيئة ومساعدوه مكاتبهم إلى المطار الجديد بصفته أكبر مطار سعودي، فحركة الطيران فيه تمثل أكثر من 50% من حركة الطيران في جميع مطارات المملكة، بما فيها مطارا الملك خالد، والملك فهد الدوليان، والهيئة منذ تأسيسها قبل 81 عاما جعلتها الدولة في جدة بصفة "عروس البحر" البوابة الكبرى للحج والعمرة، والميناء الرئيس للوطن، لكن يبدو أن هناك نظرة ثاقبة أفضت إلى أن ينجح رئيس الهيئة في إقناع مجلس الوزراء بالموافقة على طلبه، وقال له المجلس أنشئ مبنى جديدا للهيئة في الرياض بشرط ألا تتجاوز تكاليفه 631000000 "ستمائة وواحد وثلاثون مليون ريال فقط لا غير" وفقط لا غير، هذه كان يمكن أن تستدير قليلا لتوجه هذا المبلغ الضخم جدا إلى تطوير الخدمات الأرضية المهترئة في مطارات المملكة، لكن حكمة هيئة الطيران ولترشيد تكاليف إرسال الخطابات إلى الوزارات والمصالح الحكومية، حيث بعد اكتمال النقل إلى العاصمة سيتولى مساعدو رئيس الهيئة إيصال تلك الخطابات مناولة، وفي هذا فوق ترشيد النفقات المالية توفير لاستهلاك الإنترنت، وأهم من كل ذلك إيجاد عمل للمساعدين الخمسة، وتحويل المراسلين إلى العمل في ساحات المطارات ليتولوا "دف" الباصات التي تنقل الركاب من وإلى الطائرات وتوفير قيمة البنزين والديزل اللذين تستهلكها تلك الباصات بعد رفع أسعار المنتجات البترولية وحسم تلك القيمة من عقود شركة تشغيل الباصات!!

نقل المقر الرئيس للهيئة إلى الرياض لن يكلف إلا بضعة آلاف يسيرة، فهنا نحو "1200" موظف لابد من صرف راتبين لكل منهم بموجب النظام، وهذه بسيطة، حيث يمكن توفيرها من تكاليف إنشاء المبنى الجديد بالرياض، يعني من الستمائة وواحد وثلاثين مليونا التي قال مجلس الوزراء لرئيس الهيئة "فقط لا غير"!!

أما الأبسط من كل هذا فإن هؤلاء الـ 1200 موظف تقريبا يتبع كل منهم نحو 4 أفراد "عائلته"، أي هنا نحو 6 آلاف إنسان قررت الهيئة تغيير حياتهم ونقلهم إلى الرياض، وعلى هؤلاء كلهم أن يحمدوا الله كثيرا لأن الهيئة كانت رحيمة بهم، وألا لأتلفتهم مع الأثاث القديم الذي ستتلفه في جدة بعد الانتقال!!

أقول قولي هذا، لأن هؤلاء الموظفين سيبدؤون "يجعجعون" في الصحف وفي تويتر ويشتكون من الإجحاف بحقهم في عملية النقل هذه، وسيقدمون حججا قوية مقنعة تؤكد لكل ذي عينين ونصف دماغ أن عملية الانتقال هذه ليس لها مبرر مطلقا، بل وسيقولون لماذا بدل هذه "الكركبة" والخسائر غير المبررة، لم يلتفت الرئيس العام إلى تطوير الخطوط السعودية ويقنع العاملين فيها من مديرها العام إلى أصغر موظف بأنهم جميعا لخدمة الراكب، كما تفعل كل شركات الطيران في العالم كله، وليس كما تنفرد به الخطوط السعودية وهي تشعر الراكب أن عليه أن يتذلل لها ويشكرها على تواضعها وسماحها له بركوب طائراتها!! وسيتساءل الموظفون المنقولون: ألسنا في زمن الحكومة الإلكترونية وفضاء النت؟! وهذا من غفلتهم وعدم علمهم أن رسائل الهيئة بالبريد أو بالإيميل تكلفها سنويا نصف الميزانية، خاصة وقد ثبت للهيئة عن سعة علم وعمق تجربة أن رسائل الإنترنت السرية تتسرب أثناء رحلتها الطويلة بين جدة والرياض، بل إن سكان القويعية في طريق الرياض يعترضون الإيميلات ويفتحونها ويصورونها وينقلونها إلى تويتر!!

الموظفون سيقدمون كل حجة لديهم مقنعة ومنطقية، لكن هناك حجة دامغة يجهلونها ولا تلفت نظرهم أبدا، وهي أن معالي الرئيس ومساعديه لم يذوقوا طعم الراحة في جدة بسبب رطوبتها التي لم يتعودوا عليها!! فهل يضحون بصحتهم ونومهم من أجل البقاء لستة آلاف إنسان، أو حتى من أجل الهيئة، وقبل أن أختم أقترح على الرئيس أن يكمل "جميله" وينقل الخطوط السعودية كلها إلى الرياض وكل مقرات شركات الطيران الأجنبي، فقد قال لي مهندس صديق من الخطوط إن رداءة بعض الطائرات يعود لرطوبة جدة، وأردف: كم نبهت المسؤولين على مدار نصف قرن مضى بألا يجعلوا الطائرات تبيت في الجو الرطب!! لكن لم أجد استجابة!! فقلت له: سأوصل صوتك إلى رئيس الهيئة والخطوط، وها أنا أوصله، فرطوبة جدة مزعجة جدا، ولا أعرف هل بالإمكان نقل هذه المدينة إلى صحراء الدهناء أو النفوذ أم لا؟! ففيها نحو 6 ملايين مواطن ومقيم متضررون من رطوبتها الطاغية الطاردة للصحة والنوم!!