تعيش المنطقة العديد من التقلبات السياسية والأمنية وإعادة لتوجيه بوصلة التحالفات والتكتلات بشكل غير مسبوق. تنظر الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إلى المنطقة عبر عدسة مختلفة عن تلك التي ينظر من خلالها العرب والدول الإقليمية الأخرى، فالمصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية تعد المحرك الأول للدول الغربية دون أي اعتبارات أخرى. استبشرت إيران خيرا بفوز باراك أوباما بكرسي الرئاسة في انتخابات عام 2009. آنذاك ترجم الإيرانيون اسم أوباما إلى الفارسية ليصبح "هو معنا". كثيرون لم يكترثوا لهذه القراءة الإيرانية، ولكن مع تقدم الوقت وتركيز أوباما على ملف البرنامج النووي الإيراني بعد فشله في جميع الملفات الأخرى في المنطقة بدأ البعض يتحدث عن رهان "أوبامي" على إيران بأمل أن يحفظ التاريخ له منجزا بعد مغادرته مقعد الرئاسة في مطلع عام 2017.

جورج بوش الابن اعتبر إيران أحد أضلع "محور الشر"، وإيران تطلق على الولايات المتحدة الأميركية مسمى "الشيطان الأكبر"، أما اليوم فنشهد تزاوجا مؤقتا ("صيغه موقت" كما يسميه الإيرانيون) بين "الشيطان" و"الشر"، فما الذي أوصل المنطقة والعالم إلى هذه النقطة، وكيف سيكون وجه المنطقة بعد أن رأت طهران أن واشنطن تبسط يدها وتمنحها ضوءا أخضر لترفع من وتيرة تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتستمر في زرع الخلايا النائمة واليقظة وخلايا التجسس ودعم الإرهاب، وإشعال الفتنة الطائفية في المنطقة؟ لقد أصبح جليا أن القوى الغربية، من جانب، تصافح الإرهاب وتصف العلاقة معه بالشراكة، ومن جانب آخر، تطالب الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية بمحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه واجتثاث جذوره ثم بعد ذلك تهاجمها لمعاقبة الإرهابيين. هذان نقيضان لا يجتمعان إلا في مخيلة تؤمن بمشروع قادم يستهدف المنطقة وأمنها واستقرارها وكينونة دولها.

في ظل هذه المتغيرات والتقلبات يتساءل كثيرون عن الخطوات التي يمكن لدول المنطقة اتخاذها لإفشال أي مخططات تستهدف أمنها واستقرارها ومصالحها. ببساطة شديدة، يحتاج الأمر إلى عزيمة ووحدة صف وثبات على كلمة واحدة، لأن مصير هذه الدول كل لا يتجزأ، والضرر الذي يلحق بواحدة سيصل إلى البقية لا محالة. على دولنا الخليجية التحول سريعا من المجلس الذي تم تشكيله لدواعٍ أمنية وسياسية بحتة إلى الاتحاد ومن لديه تحفظات فلا ينبغي أن يعرقل المسيرة، وعليه أن يلحق بالركب متى ما وجد أن الظروف مواتية لذلك، كما تحتاج هذه الدول إلى سد جميع الثغرات التي يتسرب من خلالها الخصوم. وعلى المستوى العربي، نحتاج إلى وحدة عربية كبيرة تتجاوز الخلافات والاختلافات وتشكل سدا منيعا في وجه التحديات والتقلبات. إن مثل هذه الخطوات سوف تقوي من اللحمة الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي، وتصل بالجميع إلى جبهة داخلية قوية ومتماسكة في وجه الأعاصير الحقيقية والمصطنعة. هذا ما يتعلق بالشأن الداخلي الصرف، أما على المستوى الخارجي فنحن في حاجة مُلحة إلى مشروع سياسي وخطط استراتيجية بعيدة المدى نبدأ بالعمل على تحقيقها، ليس اعتداء أو بطراً، بل لاتقاء شر كل من يحاول استهداف دولنا وتحقيق مشاريعه السياسية على حساب أمننا واستقرارنا وكياناتنا السياسية.

ولنكون بصراحة تتناسب والمشهد السياسي والتطورات من حولنا ونقولها دون تردد أو خجل: إن المشروع الإيراني الذي يستهدف دولنا في ظل صمت غربي رهيب لا يمكن مواجهته إلا بمشروع مماثل، فنحن في وقت الحزم والعزم ولا مكان للضعفاء في هذا العالم المتوحش. لقد زرعت إيران خلاياها وأذرعها العسكرية في دولنا، وتسعى إلى تحقيق مشروعها الإمبراطوري، تارة تحت مظلة الهلال الشيعي والدولة المهدوية، وأخرى بدوافع قومية تعزف على أمجاد كسرى الساساني، حتى وإن آمنا بأنه "لا كسرى بعد كسرى" ولكن من يقنع العقلية الفارسية بذلك ويجعلها تتوقف عن حرق المنطقة لملاحقة سراب خادع؟ إيران لا تفهم إلا لغة القوة والندية، ولذلك فنحن في وقت معاملتها بالمثل، حذو القدة بالقدة، وبالأساليب والأدوات ذاتها. إلا أن ذلك لن يتحقق دون اتخاذ قرارات استراتيجية تتناسب والمرحلة، ونتخلى عن سياسات "عدم التدخل في شؤون الآخرين"، فدولة مثل إيران تقرأ هذه السياسة بأن دول المنطقة غير قادرة على مواجهة الغطرسة الإيرانية، ولهذا استمرت في تدخلاتها وكبرت وتضاعفت أحلامها.

أدرك جيدا أن هذه قرارات صعبة ولكن الأصعب هو حقيقة أن العالم لا يحترم إلا الأقوياء، ولنا في قرار الملك سلمان بإطلاق عاصفة الحزم، بالتحالف مع بعض الدول العربية، خير شاهد ودليل. لقد رضخ العالم للأمر الواقع وتم تأييد التحرك العسكري من قبل مجلس الأمن، وهذا لم يكن ليتحقق لو لم تنطلق العمليات على أرض الواقع وأثبتت دولنا أنها قادرة على اتخاذ قراراتها الحاسمة بنفسها دون انتظار موافقة غربية أو شرقية على ذلك. لعل هذا النموذج الناجع يقود إلى اتخاذ قرارات تعيد النظام الإيراني إلى التحول من الهجوم إلى الدفاع والانكفاء إلى الداخل ليواجه مستحقات طال انتظار سدادها، وحينها سيقول الشعب الإيراني كلمته، وبذلك يتحقق خلاص المنطقة من شر النظام الإيراني وتحقق الشعوب في جغرافية إيران طموحاتها وتستعيد حقوقها المسلوبة. كما أن على القوى الغربية إعادة قراءة المشهد في منطقة الشرق الأوسط، وألا تسهم في صراعات هائلة قد يصعب احتواؤها لاحقا. إن الصمت الغربي عن الإرهاب الإيراني وتدخلات طهران في شؤون الآخرين هو السبب الرئيس لكل ما يحدث وسيحدث في هذه المنطقة، وإن الكيل بمكيالين في تعريف الإرهاب ومحاربته أصبح مكشوفا للجميع، فمتى تضطلع القوى الكبرى بواجباتها وتمنع اشتعال مزيد من الحرائق في المنطقة؟.