(حسناً أيها الفارس البدويّْ

هل تجرعت حزن الغداة وصبر العشي ..؟

أرى وجهك اليوم خارطة للبكاء

وعينيك تجري دماً أعجمي)

محمد الثبيتي

الشعر الجميل شجرة تمتص بجذورها الماضي السحيق ليسير عبرها ويتشكل على شكل قصيدة عابرة، والأشجار تأخذ الماء من الأسفل وترفعه للأعلى معارضة للجاذبية بإرادة الحياة المبثوثة فيها.. ثم تتنفس لكن أنفاسها لا تأخذ من الهواء إلا أقل بقليل مما تعطيه من أسرار النقاء. كذلك الشعر يأخذنا للحياة ويأخذ من تعبنا جله؛ فيدهشنا شاعر وقف واستوقف، أو تغزل أو رثى. ألا يدهشك أن الخنساء راثية عاطفتها توهجت بالحزن ومعه؟!

الثقافة التي تحتضن أجمل الكلام ثقافة غنية وارفة الظلال، لأنها تعلم الإنسان كيف يعبر عن نفسه أجمل تعبير ولهذا نحب الشعر لأنه لا يقبل أن يحمل إلا الأنقى فكان الشعر تمهيدا لنزول القرآن في أمة علقت الشعر وتعلقت به.

الشعراء ينتقون القيم فيبثونها حكمة مؤثرة، أو وصية لولد، أو أمنية لبنت، كما يعبرون أحيانا عن صعوبة في التكيف مع الواقع الذي يرونه بخيالهم ممطرا معشبا مخضرا ولو كان امتدادا لا ينتهي من الرمال في الربع الخالي من الحياة.

مقدمة أدلف بها من بوابة الريح التقنية التي تعصف بحياتنا لأستحضر أول ما أدهشنا في التراسل وجذبنا له وهو الود المبثوث في رسائل لطيفة كانت تحقق درجة من الإشباع الجماعي لنا، ذهب زمانها وبقيت منها صباحات منثورة بالورد أو جمع منظومة بالصلاة النبوية والتسبيح وما عداهما فيدخل في الكلام الذي لا يحمل غالبا إلا مكرورا من مطالب بالنشر همه أجره، لغرائب حكايا وهدايا الناس المغلفة بالمبالغة.

اللغة تعبير عما في النفس فمن غسل مرحبا أيدي ضيوفه بدهن العود عاجز عن أن يعي أن حاتم الطائي لا يزال أكرم منه لأنه افتدى أسيرا استنجده بحريته حين لم يجد ما يملكه لفكاكه فجلس مكانه في الأسر؛ وهو القائل:

يرى البخيل سبيل المال واحدة

إن الجواد يرى في ماله سبلا

الكرم يشبه الشعر كونه حاجة فرضتها الحياة في الصحراء القاحلة لحفظ بقاء إنسانها لذا فهو قيمة، بينما التبذير والتباهي ضرورتان فرضتهما مرحلة البحث عن تميز للذات الغائبة فاضطر للمباهاة حتى يراه الآخرون لذا فهو انحدار!

النجدة أيضا قيمة أخرى لا تخلو منها المجتمعات الإنسانية، لكنها تتوارى وراء ثقافة التقاط صور ترافقها عبارات استنكار وتعجب لا توثق الحدث، بل تبحث عن إدهاش آخرين لا يعرفهم ولو عبر استهانته بإنسانية مصاب أو معتوه!

إن كنت ممن يسخِّر لغته للسخرية بإنسان يظنه أحمقا أو بممثل أو بمطربة باستمرار ويلاحق ما تقول فهذا ببساطة يعني أنهم يؤثرون بك ويشغلون من حياتك حيزا لا يبقي في ذهنك فراغا!

العربي في صحرائه كان يسمي الصحراء المهلكة مفازة، ويدعو الأعمى بصيرا، والمريض سليما لأنه امتلك أسرار البيان؛ فبالرغم من فقر بيئته إلا أن روحه وعينيه وارفة الظلال حولت العجز لقدرة واليأس لأمل، فما بالنا نتباهى بأننا أقدر من غيرنا وأغنى وأصح وأبهج؟!

قرأت مرة مقارنة لطيفة بين الأغنياء قديما في مجتمع الآباء والأجداد أنهم يخفون غناهم رفقا بالفقراء ويلامسون حاجتهم ويتفقدونهم؛ اليوم انقلبت الآية، فالتباهي هو الغالب حتى على الفقراء الذين يتوارون وراء مظاهر ثراء زائفة ويرهقون أنفسهم بالديون حتى لا يظهروا بمظهر الأقل!

التواضع قيمة تشبه الشعر وتفوقه عندي لأن المتواضع في أخلاقه آية كما يقال؛ المتواضع ببساطة لا ينظر إليك من الأعلى مهما ارتفع عنك مكانة أو منزلة بل ربما تطامن لك وظنك تفوقه؛ لنقل باختصار المتواضع يقدر إنسانيتك المساوية له. عكس المتواضع المدعي للتواضع وما أكثر ما نسمع عبارات تحمل المن بأن صاحبها تواضع لمن لا يستحق ذلك، بينما المنطق يشير إلى أن المتواضع الحقيقي يفعل ما يفعله بقناعة صادقة لا تحمل شعورا بالمهانة أو فرضا على الآخرين لإعلاء قيمة الذات التي يفتقدها صاحبها.

يقف بي التأمل في طباع البشر عند ثنائية الدين والخلق التي تطبق حتى في الزواج لأصل لأن التدين يهذب الأخلاق لكنه لا يخلقها من العدم، لكن التربية هي التي تسن قوانين القيم في داخل الإنسان وقد فعلتها في العربي قديما.

لا أقصد الأخلاق المصنوعة بكاميرا المراقبة أو عيني رجل الشرطة أو الهيئة، ولكن أعني الأخلاق التي تبقى عندما يغيب كل هؤلاء فلا تشوب الحليب بالماء لأنها تدرك أن رب عمر أهم من عيني عمر.

ما أسعد أصحاب القيم بقيمهم، لأنها تنطلق من روح تعطي فتأخذ من اللذة أضعاف ما تأخذ من الشكر.

قالت أوبرا وينفري ذات يوم في برنامجها الشهير وهي توزع مالا على الحاضرين ليقدموه للمحتاجين إنها تريد أن يتذوقوا معنى اللذة التي تعرفها وتأتي من العطاء وهي تفوق لذة الأخذ!

ويروى عن زوجة عبدالرحمن السميط أنها كانت في وسط تعبهم في مساعدة المحتاجين في مجاهل إفريقيا تستمتع وتسأل زوجها: يا عبدالرحمن هل في الجنة سنجد مثل هذه اللذة؟!