يكاد ماراثون مدينة نيويورك يعدّ أشهر سباق جري سنوي على الإطلاق، فهذا الماراثون الذي بدأ عام 1970 بمجرد مسابقة جري داخل حديقة "سنترال بارك" وسط منهاتن نيويورك، وبمشاركة 127 متسابقا لم يتمكن منهم سوى 55 من إتمام المضمار؛ تحول اليوم إلى مضمار سباق تتجاوز مسافته 42 كلم، يخترق خمس مناطق بالمدينة، ويشارك فيه أكثر من خمسين ألف مشاركة ومشارك من كل أنحاء العالم.

في عام 1994، وطئت قدما المهاجر الإكوادوري "خوليو سالس" نيويورك، وبالتحديد قبل أيام قليلة من ماراثون ذلك العام، وصدف أن شاهد النقل المباشر للسباق على التلفزيون؛ أشعلت تلك المشاهدة شغفه نحو الجري، لكنه لن يتمكن من المشاركة رغم حبه للجري، فالمسافة طويلة وتحتاج تدريبا مسبقا، والأسوأ من ذلك أن حياته في نيويورك لم تكن كما توقع أبدا، إذ إنه ورغم مهاراته اللامعة في الطهي، لم يعثر إلا على وظيفة غسيل الأطباق.

عمل كثيرا ولنوبات متتالية، لكنه لم يستطع أن يتقدم إلى الأمام، أحس أن حياته أضحت لا تفرق كثيرا عما تركه وراءه في الإكوادور، لكنه دوما ما كان يتذكر أيام ركضه في مسقط رأسه، خاصة مشاركته قبل عامين، وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة، في سباق جري الـ5 كيلومترات بمهرجان مدينة "ديليغ"، إنه اليوم يلاحق فرصة حياته هنا في نيويورك، كما كان دوما يركض إلى الأمام في أي سباق جري!

وفي  لحظة تحدٍ قال لنفسه: "يوما ما، سأقوم بهذا".

وهكذا تحولت المشاركة في ماراثون نيويورك هدفا أساسيا على لائحة أهدافه، بعد الوظيفة وتأسيس العائلة.

لكن الأيام ثم الأعوام تمضي حتى كاد ينسى حلمه بالجري والمشاركة ولو لمرة واحدة في ماراثون التفاحة الكبيرة.

في يوم غائم وبارد، وجد الخلاص في مضمار جري حديقة "سنترال بارك"، وهناك قابل مجموعة عدائي الجانب الغربي من منهاتن، إحدى أقدم مجموعات الجري في نيويورك، ليس وحسب بل كانت تلك المجموعة تتميز عن غيرها بميزة رائعة، وهي تنوع الخلفية العرقية لأعضائها, مما جعلهم يرتقون من مجرد رفقاء جري فقط، إلى أصدقاء حقيقيين وداعمين بعضهم بعضا في هذا المجتمع شديد التنافسية.

هنا، أعاد "خوليو" إحياء حلمه القديم، وكيف أنه دهش حينما رأى الفائز في تلك النسخة من الماراثون المكسيكي "جرمان سلفيا"، آمن أنه ليس أقل منه، وأن بإمكانه تحقيق ما يأمل، لكنه تسرّع بالمشاركة في الماراثون القادم، ليصاب بخيبة أمل لأنه لم يستطع إكمال أميال السباق، فضلا عن تعبه الشديد نظرا لطول المسافة، وهكذا عاد من جديد لمجموعة "عدائي الجانب الغربي"، وهناك التقى بالمدرب المكسيكي "فليب فريقار" الذي لم يبخل عليه بالتدريب البدني والمساندة المعنوية، بل حفّزه على البحث عن وظيفة أفضل وعن تأسيس عائلة وبناء مستقبل يفخر به.

خلال سنوات، التقى "خوليو" بفتاة أحلامه وتزوجها، ليقسم حياته ثلاثة أقسام فقط: عمل دؤوب مستمر في مطبخه، وقد أصبح طاهيا يشار إليه بالبنان، واهتمام مفرط بعائلته، وتدريب جري يومي وأسبوعي شاق، لم يلتفت إلى جمهور المثبطين من المحيطين حوله، ولم يتوقف عند تقدم عمره نحو الأربعين، والأعظم من ذلك، أن هدفه بالمشاركة تطور مع مرور الوقت إلى هدف الفوز بالماراثون!

أضحى أكثر أعضاء المجموعة نشاطا وحرصا على المشاركة والجري اليومي، حتى وإن استلزم الأمر ألا ينام سوى ساعات قليلة، فقد كان يعود بعض المرات من مطبخه الساعة الثانية صباحا، ويقضى في قطار الأنفاق حوالي الساعة حتى يصل إلى منزله في بروكلين، ليصحو مرة أخرى بعد ثلاث ساعات، أي في الساعة السادسة صباحا ليكون أول الواصلين إلى حصة الجري الصباحية، ثم يعود لإيصال ابنه إلى المدرسة، ثم إلى التدريب مرة أخرى، وهكذا دواليك.  تحسنت لياقة "خوليو" بشكل متدرج خلال سنوات، وأضحى قادرا على الجري أكثر من 80 ميلا نهاية كل أسبوع.

وفي عام 2012 سجل للمشاركة في الماراثون، ولكنه ألغي بسبب إعصار ساندي الذي أصاب المدينة، بيد أن هذا لم يمنعه من الجري على مسار السباق، فكان أن أنهاه خلال ساعتين و37 دقيقة، وهو ما يعد رقما قياسيا لفئته العمرية.

لكن "خوليو" استطاع أن يقطف ثمرة إصراره الطويل، وعدم تخليه عن حلمه الشخصي في ماراثون عام 2014، حينما استطاع أن يحقق المركز الـ123 من أصل خمسين ألف مشاركا، والأول في فئته العمرية "42 عاما"، إذ استطاع إنهاء السباق في ساعتين وأربعين دقيقة فقط!

وهناك كانت زوجته وابنه ومدربه يحتفلون بمن قهر المستحيل وحقق حلما راوده قبل عشرين عاما.

واليوم يقوم "خوليو" متطوعا بتدريب مجموعة من الشباب اليافعين؛ ليصبحوا فيما بعد عدائين محترفين، فهو يؤمن أنه لا بد أن يقدم شيئا للمدينة التي ضمنت له مستقبله، وإلى الرياضة التي أعادت إليه روحه، والأهم إيمانه أن أي إنسان مهما كانت ظروفه قاسية وحياته شاقة، قادرٌ على قهر المستحيل، وتحقيق حلمه ولو بعد حين.