هل يمكن أن تخطط عائلة سعودية تعيش في العاصمة الرياض أن تقضي أمسيتها وسط المدينة؟ للأسف لا يحدث هذا الأمر، فوسط المدينة تحول منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى مجرد مركز تجاري للتوزيع أو سكن رخيص للعمالة فقط، ورغم كل المحاولات الحثيثة للهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض أن تحيي المنطقة إلا أنها لا تزال خارج نطاق الاهتمام والمنافسة.

في عام 1408 وحينما أطلقت "الهيئة العليا" ورشة مشاريع وسط الرياض كان الأمل معلقا نحو جذب المواطنين من جديد إلى وسط العاصمة، بعد أن انتقل أغلبهم إلى الأحياء الجديدة، رغم تفوق الوسط باحتوائه على جميع الخدمات اللازمة، ولكن زيادة عدد الوافدين وإغراءات المناطق الجديدة سرّعت من هذه الهجرة، فأضحى المواطنون غرباء وسط مدينتهم، كما أدى ذلك إلى تراجع النشاط السكني مقابل تزايد الأنشطة المساند للأنشطة التجارية كالمستودعات وإسكان العمالة، نظرا لانخفاض الإيجارات المتواكب مع تراجع الحالة العمرانية، الأمر الذي أثر تراكميا على دور وسط المدينة ووظيفته الرئيسية، والصورة الذهنية للمكان.

وكان أن انطلقت مشاريع ضخمة لإعادة إحياء الوسط من جديد، عبر تثمين ثم هدم جزء من المنطقة المركزية، وبناء قصر الحكم، وجامع الإمام تركي بن عبدالله، ومجمع أسواق "المعيقلية" التي حافظت على تجارها السابقين بمنحهم محالّ في المجمع الجديد، وكذلك سوق "سويقة" المجاور لقصر "المصمك"، لكن رغم المشاريع الكبيرة والفعاليات الشعبية التي تولت تنظيمها أمانة العاصمة، إلا أن النشاط التجاري لمركز العاصمة لم ينجح في جذب الأجيال الشابة نحو المنطقة إلا فيما يخص بيع الأقمشة الرجالية والعود وبعض متاجر الجملة.

واليوم تطلق "الهيئة العليا" مرة أخرى مشروعا طموحا لإعادة إحياء المنطقة من جديد، ورغم أن المشروع يحتوي على عناصر جديدة كتأسيس شركة تطوير حكومية لتنفيذ وتشغيل المشروع، وكالفندق ذي الطراز الشعبي، والمسار الثقافي التراثي، إلا أننا حتما سوف نواجه نفس النتيجة من جديد، ولن يجذب المشروع من يسكن في أحياء على طرف المدينة يبعد بعضها أكثر من ثلاثين كلم، حتى يتسوق من أسواق يتوافر مثلها بالقرب منه، رغم أن المشروع يحتوي على عنصر إضافي وهو إعادة جذب المواطنين للسكن من جديد في المنطقة!

الإشكالية الكبرى هنا أن المنطقة لا تتميز بأي ميزة تنافسية مختلفة عن أي حي من أحياء المدينة، فما الذي يجعلني أتجشم عناء الطريق والزحام حتى أصل إلى هناك؟ فالمجمعات التجارية ذات تصميم حديث، وكأنما أنت في "مول" تجاري حديث، وليست كما يفترض أن تكون ذات صبغة شعبية جذابة، والأسعار ليست أرخص من غيرها، فضلا عن أن الصورة الذهنية لا تزال لم تتغير.

لذا لا بد من التفكير خارج الصندوق بمنح المنطقة ميزات تنافسية تجعلها تتقدم نقطة أو نقطتين على المناطق الأخرى، فمثلا لماذا لا يدرس منح تراخيص للمقاهي الشعبية هناك، على أن تحتوي على جميع ما تقدمه المقاهي الشعبية خارج النطاق العمراني بالمدن السعودية، من مشروبات وكذلك منتجات التبغ المحلية مثل "المعسل" و"الجراك"، فهذه المواد ليست ممنوعة حسب النظام، بل يتم تداولها نظاميا، ولكن فقط خارج النطاق العمراني، ومنح هذه الميزة تحت رقابة البلدية سوف يزيد من الإقبال على المنطقة ويعيد شيئا من وهجها القديم.

أيضا لمَ لا تقوم "الهيئة العليا" بإنشاء مجموعة مسارح ذات سعات متفاوتة؟ تؤجر بأسعار رمزية للفرق المسرحية، خاصة الشبابية منها، ويستفاد منها بتنظيم الحفلات والاستعراضات الفنية، وأن تنشأ كذلك صالات عرض متعددة، يستفاد منها بتنظيم معارض الفن التشكيلي والنحت وغيرهما من الفنون الإبداعية. وكذلك تمنح تراخيص مخفضة لأندية اللياقة والتدريب الرياضي، مع عدم إغفال المساحات الخضراء والملاعب المفتوحة للجميع، ولك أن تتصور أننا نهدر فرصة كبيرة لإنعاش المنطقة المركزية، كونها تقع وسط تجمع سكاني ضخم لا يقل عن خمسة ملايين نسمة، يشكل منهم الشباب نسبة غالبة، مما يوفر قوة شرائية هائلة للمنطقة وأنشطتها التجارية والثقافية والاجتماعية، والكرة اليوم في ملعب "الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض"، وكل ما يحتاجه الأمر مزيدا من النشاطات الترفيهية والأفكار خارج الصندوق، وحتما أن شباب الهيئة على ذلك قادرون.