في منتصف الخمسينيات من القرن الفائت، طلبت إسرائيل من حاميتها الولايات المتحدة، صفقات أسلحة حديثة ومتطورة حينها، بحجة أن القيادة الجديدة في مصر، أخذت تبني وتنمي قوتها العسكرية؛ مما يهدد أمن وسلامة إسرائيل. فذهب وزير خارجية الولايات المتحدة حينها، جون فوستر دالاس، لمصر ليطمئن هو بنفسه على أن مصر لا تبني قوتها العسكرية، للدرجة التي تهدد بها أمن وسلامة إسرائيل، حليفة وقاعدة أميركا في الشرق الأوسط.

فوصل دالاس مصر للتأكد بأن مصر لا تبني قوتها العسكرية، وكان برفقته أخيه الن دالاس، مؤسس ورئيس الاستخبارات الأميركية. وبعد محادثات مع القيادة المصرية الجديدة، برئاسة جمال عبدالناصر؛ اكتشف دالاس أن القيادة الجديدة في مصر كانت مشغولة ومنهمكة برسم خطط تنموية طموحة لمصر، ولم يكن تطوير الجيش من أولوياتها، مع كون القيادة الجديدة معظمها كانت مكونة من ضباط في الجيش المصري. وهنا استغلت القيادة المصرية الجديدة زيارة دالاس لهم، وطلبوا منه أن تقوم أميركا بتمويل مشروع السد العالي، الذي يخططون لبنائه والذي سيشمل أكبر بحيرة صناعية في العالم، من أجل تطوير وتنمية الزراعة في مصر والتي كان يعتمد عليها الاقتصاد المصري.

اطمأن دالاس بأن مخاوف إسرائيل كانت وهمية وغير مبررة، فذهب لإسرائيل وطمأن رئيس وزراء إسرائيل حينها، ديفيد بن جوريون، بأن القيادة المصرية الجديدة غير مشغولة أبدا في تقوية جيشها، وإنما هي مشغولة بتنمية اقتصاد مصر وتطويره. هنا انزعج بن جوريون، وقال لدالاس، هذا الذي يخيفنا، وليس جيش مصر! ما يخيفنا هو أن تتحول مصر لقوة اقتصادية وصناعية كبرى في المنطقة؛ حينها لن يكون لنا مجال للصمود أمامها، أي سوف تتحول لتهديد حقيقي لوجود إسرائيل. حتى إن بن جوريون، علق بأنه لا يريد أن يرى مصر تعيد قوتها الفرعونية؛ لأنه لا يوجد الآن في إسرائيل موسى وعصاه ليتصدى لها.

فطلب بن جوريون من دالاس أن تزود أميركا وحلفاؤها الأوروبيون إسرائيل بأسلحة جديدة ومتطورة؛ من أجل أن تخاف القيادة المصرية من قوة إسرائيل المتنامية، فتتوقف عن صرف ميزانيتها على التنمية وتحولها للصرف على بناء جيشها وشراء الأسلحة والعتاد. وعلق بن جوريون، بأن الأسلحة التي ستزود بها دول أميركا وأوروبا إسرائيل، ستكون هبات مجانية، أي لن تكون على حساب تنميتها، أما مصر فستشتري السلاح من ميزانيتها، والتي بالطبع ستكون على حساب تنميتها.

فقامت أميركا وفرنسا وبريطانيا بتزويد إسرائيل بأسلحة حديثة ومتطورة، سراً وعلناً، مما أخاف القيادة في مصر. بدأت إسرائيل تشن هجمات فدائية على الجيش المصري وتهينه. طلبت مصر تزويدها بالسلاح من أميركا، فرفضت أميركا، بحجة عدم تهديد أمن وسلامة المنطقة. عندها قررت مصر شراء سلاح من عدو أميركا حينها الاتحاد السوفيتي، وأبرمت معه صفقة الأسلحة التي عرفت بـ"الأسلحة التشيكية" عام 1955. مما جعل الغرب ينظر لمصر كخطر يهدد أمنها الاستراتيجي في المنطقة. فشنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، حربا على مصر، والتي عرفت بحرب "العدوان الثلاثي"، عام 1956. كان عدد الجيش المصري آنذاك، لا يتعدى الـ35 ألف جندي؛ وبسلاح خفيف ومتوسط. وبرغم جيوش دولتين عظميين ودولة عدوة جائرة، تصدى الجيش المصري لغزوهم، بفضل وقوف الشعب المصري مع جيشه وقيادته، وكذلك العرب ودول العالم المحبة للسلام. بعدها بـ10 سنوات في عام 1967، هجم الجيش الإسرائيلي وحده على الجيش المصري، الذي بلغ عدده حينها أكثر من ربع مليون جندي، مع أسلحة ثقيلة ومتطورة، ودمره بظرف 6 أيام.

إذًا فنحن هنا، نكون أمام أولويات للنصر العسكري؛ وهي أن تكون الدولة متطورة تنموياً، في الاقتصاد والصناعة والزراعة والتعليم والصحة وغيرها. وبنفس الوقت، تساعدها تنميتها الداخلية المتطورة على صناعة سلاحها بعلمها وعملها، وبأيدي علمائها وعمالها.

السؤل هو: بما أن إسرائيل وعت باكراً معادلة النصر هذه؛ لماذا لم تطبقه على نفسها، وما زالت تنتصر عسكرياً؟ الجواب هو أن إسرائيل طبقته وبذكاء، وذلك بأنها تحصل على سلاحها من أميركا وأوروبا بالمجان، أو شبه المجان، عبر مساعدات لها. أي أن تسليح جيش إسرائيل، لا يكون على حساب ميزانية تنميتها الداخلية، بالحجم الذي يؤثر عليها.

بل وتم نقل أسرار تقنية الصناعة الحربية الدقيقة والصاروخية، من الغرب لإسرائيل؛ والتي مكنها من تطوير الصناعات المدنية ودعم مراكز البحوث العلمية في جامعاتها، حيث أصبحت جامعاتها أفضل جامعات في الشرق الأوسط.

بعد هزيمة كل من اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية عام 1945، برغم ما ملكتاه من ترسانات أسلحة متطورة وضخمة؛ منعت الدولتان من تكوين جيوش لها، ناهيك عن التصنيع الحربي، حيث تكفلت دول الحلفاء بحمايتهما عسكرياً من أي اعتداء خارجي، وهنا توفرت ميزانية كلتا الدولتين للتنمية الداخلية لا غير. وبعد 3 عقود، تحول اقتصاد كل من اليابان وألمانيا، إلى منافس لاقتصاديات الدول التي هزمتها. ولو اضطرت أي من اليابان أو ألمانيا لدخول حرب الآن، لتحولت إلى قوه عسكرية عظمى بوقت قياسي. حيث كل منهما يمتلك صناعة وتقنية عالية الجودة ومتقدمة، واقتصاد كل منهما يتحمل تكاليف شن حرب ولعدة سنوات، وذلك عن طريق تحويل صناعاتها المتطورة المدنية للصناعة الحربية، والتي ستنتج لها أسلحة عالية التقنية والجودة، ومنافسة لمثيلاتها لدى القوى العظمى. وفوق كل هذا وذاك، فشعبا كل من اليابان وألمانيا مؤهلان الآن، بفضل التعليم الراقي لديهما والانضباط والتنظيم، لتكوين جيوش عالية المهنية والاحترافية.

الصين عندما نجحت ثورتها الشيوعية عام 1949، كانت تعتبر دولة تحت النامية، وكانت الأمراض والمجاعات تفتك بشعبها، وكانت كذلك محاطة بالأعداء من كل جانب. أغلقت الصين سورها العظيم عليها ثانية، وانقطعت عن التورط في أي مشاكل دبلوماسية ناهيك عن العسكرية في العالم، حتى مقعدها في مجلس الأمن لم تطالب به. وركزت على تنميتها الداخلية، وبأقل من 5 عقود، أصبحت الصين ثاني أقوى اقتصاد في العالم، وصاحبة أكبر جيش فيه.

قبل الحرب العالمية الثانية، كان عدد جيش الولايات المتحدة الأميركية 220 ألف جندي. وعند نهاية الحرب، أي بعد 4 سنوات، أصبح لديها جيش يتكون من 8 ملايين جندي، وأضخم ترسانة أسلحة بالتاريخ.

كان صدام حسين يفتخر بأنه يمتلك جيش المليون جندي؛ ولكن هذا المليون جندي كان مهلهلا وشبه جائع، وذلك لكونه أتى على حساب تنمية البلد. هذا الجيش تفكك بدولته وبظرف أسابيع من هجوم جزء من الجيش الأميركي عليه.