في محاضرات بورخيس الست البديعة، والتي كان قد ألقاها في جامعة هارفرد 1967 ثم خرجت في كتاب صغير كبير، اسمه "صنعة الشعر"، صدر عن دار المدى 2007 بترجمة صالح علماني، يتحدث بورخيس في آخرها، في محاضرة "معتقد الشاعر"، عن قصيدة لكيتس اسمها "أغنية إلى عندليب"، ومطلعها: "أنت لم تولد للموت، أيها العصفور الخالد، يجب ألا يدوسك أناسٌ آخرون، جائعون"، يقول بورخيس: "كنت أعتبر اللغة شيئاً لقول أشياء، للشكوى، أو للقول إنني لست سعيداً، أو حزيناً، ولكنني عندما سمعت تلك الأبيات (وأنا ما زلت بطريقة ما أسمعها منذ ذلك الحين) عرفت أنه يمكن للغة كذلك أن تكون موسيقى وعاطفة، وهكذا راح الشعر ينكشف لي". أستخدم هذه التقدمة للحديث عن محمد سلامة، وهو لم يصدر قصائده بعد (وأرجو أنه سيفعل يوماً)، إلا أن ما قرأته منها يقع في قلب الشعر، فهو بالضبط لا يعتبر الكلمات شيئاً لقول الأشياء فحسب، بل للموسيقى والعاطفة والكشف أيضاً، كتب سلامة مثلاً: "أحدثكم من المقبرة، حيث الحياة مزدهرة والناس فرحون، فمنذ توفيتُ قبل عامين ونصف، وانتقلت للعيش في قبري الأنيق، وأنا أعيش حياةً مترفة. لدي بعض الأصدقاء الرائعون، أما الأعداء فلا وجود لهم".

جانب آخر لدى هذا الشاعر فهو أيضاً مهتم بالسفر والأطعمة والفنون والغرائب، له حوارٌ مهمٌ وملهم مع الفنان سراج عمر، وزاويته في "عين اليوم" مليئة بالبلدان والحكايا، مرة عن الهند وكرة القدم، ومرة عن السودان وأسواقها الشعبية، ومرة عن الحبشة واللحوم النيئة، ومرة عن الملحن العبقري، عبدالله محمد، ودراجته النارية، وكيف اقتحم بها بيت طلال مداح، في مشهد عجيب، وغير ذلك. وبالمناسبة فمحمد نفسه كان قد جعل من طلال هذا المخلوق الخارق، مشروعاً شخصياً، فأسس موقعه الشهير، مع صفحة على اليوتيوب، وربما لا توجد شاردة ولا واردة عن حياة طلال ونوادر شخصيته وأغانيه، ومحمد لا يعرف عنها أكثر، وهذا لا يبدو لي غريباً على الإطلاق، حيث لا توجد مسافة فاصلة ما بين طلال ولا الشعر والسفر والغذاء.

نص آخر لسلامة: "غيوم متسخة، وفي الأرض تظهر عدة مياهٍ راكدة، أعتقد أنها مستنقعات كامنة ظهرت للتو. الناس يتهامسون حول أمرٍ لا يهمهم، ثم يضحكون. بصاق شياطين، يتلقفها أهل البلدة، ويعيدون نثرها على الشوارع والأمكنة".