إن غاية وغرض البحث للحصول على الحقوق المالية التي كانت تصدر بها الأحكام القضائية التي أصبحت نهائية وواجبة النفاذ هما المقصدان الحقيقيان من تشريع دوائر التنفيذ ومؤسساته القضائية والتنفيذية، حيث إن محاكم التنفيذ وأنظمته ولوائحه جاءت لترسيخ الحقوق والفصل بين الخصوم وترسيخ فكر وفلسفة العدالة كي تستقر وتهدأ النفوس بوجود قضاء يتم تنفيذ أحكامه النهائية، إلا أن تلك الغاية يتوجب أن تكون محققة لأصل فلسفة القضاء في تحقيق العدل والعدالة بين المتقاضين، وألا يكون جزء من أنظمة القضاء أو لوائحه عائقاً في تحقيق تلك الغاية.

لكن تحقيق ذلك الحق من خلال نظام التنفيذ ولائحته التنفيذية يواجه عوائق كثيرة رأيناها ومورست أمامنا وسمعنا عنها من قبل ممن وقعت عليهم تلك المظالم والتصرفات التعسفية وتتجلى بعضها وأهمها في: تجني اللائحة التنفيذية على أصل نظام التنفيذ، وبالتالي الخروج المطلق عن مقاصد وفلسفة نظام التنفيذ من خلال مقارنة تلك اللائحة بالقوانين المقارنة التي سبقتنا في وضع محاكم تنفيذ بكامل أجهزتها الأمنية ودوائرها القضائية، وإما بتعسف الدوائر القضائية، وذلك باتباع طرق إجرائية لا تمت لواقعنا المعاصر الذي وصل فيه استخدام أجهزة ووسائل التواصل الاجتماعية إلى ذروتها، فأما الأمر الأول وهو تجني اللائحة التنفيذية على مقاصد وفلسفة النظام، فهو يتمثل بأن أصل وضع قضاء التنفيذ هو أن تتم ترجمة كل الأحكام القضائية النهائية التي اكتسبت القطعية وقد استنفد المحكوم ضده جميع مراحل وطرق وإجراءات الاستئناف المقررة في أنظمة المرافعات المدنية والجزائية والإدارية، وتلك الترجمة تتمثل بتفعيل ذلك الحكم القضائي على أرض الواقع في حصول الحق بشتى أنواعه وصفاته وعناصره لمن تم الحكم لصالحه، إلا أن اللائحة التنفيذية قد جاءت متوسعة توسعاً جعلها تؤسس لأحكام جديدة لم يأتِ بها النظام من حيث الأصل، بل وكانت تلك الأحكام مخالفةً للمبادئ القضائية المحلية والمقارنة، فقد جاءت المادة الثالثة من نظام التنفيذ (يختص قاضي التنفيذ بالفصل في منازعات التنفيذ مهما كانت قيمتها، وفقا لأحكام القضاء المستعجل، ويختص كذلك بإصدار القرارات والأوامر المتعلقة بالتنفيذ، وله الأمر بالاستعانة بالشرطة أو القوة المختصة، وكذلك المنع من السفر ورفعه والأمر بالحبس والإفراج، والأمر بالإفصاح عن الأصول، والنظر في دعوى الإعسار)، ثم جاءت الفقرة الخامسة من اللائحة التنفيذية على المادة الثالثة آنفة الذكر التي يُفترض أن تكون تفسيراً لها وتنظيما لأحكامها بما يلي: (لا يحول وجود نزاع في موضوع الورقة التجارية من السير في إجراءات التنفيذ ما لم يرد من الجهة المختصة بنظر النزاع قرار بالتوقف). فلا علاقة بين هذه المادة والمادة الثالثة من النظام، بل إن المادة في اللائحة التنفيذية قد جاءت بحكم تكاثرت بسببه المآسي والقصص المؤلمة، وإليكم بعضاً من تلك القصص التي وقعت وكنتُ شاهد عيان عليها ومررت بجميع تفاصيلها وكل جزئياتها، ابتداء فإن هذه المادة تستغلها شركات التمويل التي تمتهن عمل عقود التسهيلات المالية والمصرفية وعقود القروض ذات الفوائد المركبة تركيبا معقدا، لم يحدث حتى في أعرق الدول الرأسمالية التي تجعل الفوائد المالية أساس نظامها الاقتصادي والمالي، كذلك تستغل هذه المادة التي تفصل بين أصل موضوع العقد وبين الضمانات التي منها الورقة التجارية المتمثلة عادة في (السند لأمر)، البنوك التجارية، وشركات وكالات السيارات، وكذلك شركات التأجير التمويلي، والتمويل العقاري، وذلك الاستغلال يتمثل في الصورة التالية: العميل الذي قد تعاقد مع شركة بيع السيارات -مثلاً- بعقد تأجير ثم في نهايته يحق للعميل أن يتملك السيارة، بيد أن ملكية السيارة طوال مدة العقد تبقى مملوكةً للشركة، وقد أخذت الشركة على العميل ضماناً يتمثل في توقيعه بعدة سندات بمقدار عدد الأشهر خلال مدة التأجير التي تبلغ عادةً 5 سنوات، وتلك السندات لأمر بقيمة السيارة والربح الذي يُقدر عادة بـ30 % من قيمة السيارة، فهذه السندات لأمر هي ضمان لدفع الأجرة وهي معاملة لم تحدث من ذي قبل إلا أنه تم استحداثها لاستجرار التمويل لمن لا يقدر على شراء السلعة، وهي عملية فيها إجحاف كبير، بيد أننا عندما لم يكن لدينا قانون مصرفي ينظم عمليات التمويل وعمليات البنوك كان الباب مفتوحاً بكل إطلاقات العقول كي ترسم وتتخيل كل ما يمكن أن يضمن حقوق المؤسسات التمويلية والبنكية، مع الحفاظ على تدوير المال المستثمر لدى تلك المؤسسات المالية، فعندما يتوقف العميل عن دفع الأجرة أو يقوم بإرجاع السيارة للشركة المالكة لها؛ تقوم الشركة بتقديم تلك السندات لأمر أمام محاكم التنفيذ، وهنا محاكم التنفيذ تقوم بإصدار قرارها فوراً، وتقوم بحجز مقدار المبلغ الذي تم تقديمه من خلال السندات لأمر، وتتخذ إجراءات إيقاف الخدمات ومنها المنع من السفر وعدم تجديد الوثائق الرسمية أو البيع والشراء عن طريقها أو تسجيل المواليد، فضلاً عن الطلب من الجهات الرسمية القبض والإحضار لهذا المنفذ ضده، وإن لم يكن قد تبلغ بأصل الدعوى، لأن كثيراً ممن تم اتخاذ تلك الإجراءات ضده لم يتبلغ بالدعوى بل علم بتلك الإجراءات بالصدفة عن طريق إيقاف أو تجميد حساباته البنكية، وتلك الإجراءات يتم اتخاذها من قبل محاكم التنفيذ دون النظر لأصل العلاقة بين تلك السندات وأصل موضوعها والذي هو في حالتنا تأجير السيارة، ولا يبحث قاضي التنفيذ لماذا تم توقيع تلك السندات؟! ولا يتطرق بل ولا يقبل الطعن أو المعارضة في استحقاق تلك السندات لأمر النظر في أصل موضوع تلك العلاقة بين المنفذ ضده والشركة التي قامت باستغلال ما قررته اللائحة التنفيذية بحكم زائد، وهو في الفقه الدستوري يعتبر ما جاءت به اللائحة التنفيذية نصاً زائداً على ما ورد في النظام، وهو تشريع جديد من غير مختص، حيث إن اللوائح التنفيذية جاءت للتفسير والتنظيم لما ورد من أحكام ومبادئ في أصل النظام، وهذه صورة من صور التعسف والجناية بحق كثير من العملاء من المواطنين البسطاء، فمن يتحمل الخطأ الذي جاءت به اللائحة التنفيذية التي فصلت فصلاً جامداً بين أصل العلاقة بين العملاء المواطنين والمؤسسات المالية، وجعلت الورقة التجارية المتمثلة في السند لأمر هي الحاكمة والفاصلة في العلاقة المالية التي غيبت عن أصل التقاضي الذي يتوخى فيه العدالة واستقرار المراكز النظامية.