يطرح كثير من التطورات الراهنة في العالم وفي منطقتنا على وجه الخصوص العديد من الأسئلة النظرية للمهتمين بحقل العلوم السياسية، وبالأخص حول كيفية تشكل العالم خلال القرن المقبل، والتحديات التي سنواجهها مستقبلا ومآلات التعامل معها. لقد أصبحت بعض المفاهيم الراسخة مثل فكرة "السيادة" مثار جدل حقيقي، فالتطور السريع لتقنيات الاتصال والمواصلات وتحرير الأسواق والتجارة الحرة وتشكل ما بات يعرف بالمجتمع الدولي، جميعها خلقت فجوات باتت معها سيادة الدول بمفهوم "السيادة الوستفالية" الصلبة ضربا من الماضي.

لم يعد الحديث عن سيادة الدولة قائما في ظل تواصل واتصال مستمر بين الشعوب تفرضه العولمة، وفي ظل تنامي قوة الشركات العابرة للحدود، وفي ظل نشوء مفهوم المجتمع الدولي وحق التدخل الإنساني، أصبحت الدول إما تتخلى طواعية عن جزء من سيادتها مقابل "سيادة جماعية" من خلال المنظمات الإقليمية، أو تضطر للتخلي عن جزء من سيادتها أمام موجة التدافع الدولي والقيم العالمية والاتفاقيات الدولية التي تنشأ بالتبعية، أو تخسر جزءا من سيادتها أمام قوة اقتصادات الدول الأخرى والشركات الكبرى. إن المسار الذي يخطوه المجتمع الدولي اليوم يقود إما لظهور ما يمكن تسميته "عالم ما بعد السيادة"، أو إلى انهيار المجتمع الدولي، كما نعرفه اليوم، والعودة إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى بمنظومة حدوده وتحالفاته الصلبة.

ويتجلى هذا التغير الذي يشهده العالم ببطء في تحول مفهوم الحدود بين الدول من الحدود الصلبة إلى "الحدود السائلة"، وهو لا يعني بالضرورة انهيار الحدود ماديا بينها، وإنما انهيارها كمفهوم، فموجات اللاجئين على سبيل المثال زادت من سيولة الحدود بين الدول، ولم يعد اليوم بمقدور أي دولة أن تغلق حدودها أمام هذا الطوفان مهما حدث، بل تطور الأمر إلى حد استخدام اللاجئين كسلاح عابر للحدود من أجل تحقيق مكاسب سياسية كما تبدى من أزمة اللاجئين السوريين مؤخرا في أوروبا.

كتب الصحفي والمحلل السياسي روبرت كابلان في مقالة بعنوان "أوروبا تكتشف جغرافيا جديدة" في سبتمبر 2015 إبان أزمة اللاجئين السوريين، إن الأزمة كشفت أن البحر المتوسط ليس حدود أوروبا الجنوبية، وإن هذه الحدود تمتد في واقع الأمر إلى الصحراء الكبرى في إفريقيا، حيث طرق تهريب اللاجئين والمهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي. لقد كان الحلم الأوروبي هو أن تمتد جنة الاستقرار وحكم القانون والرخاء التي ينعم بها الاتحاد إلى محيطها إما من خلال توسيع العضوية أو الاتفاقيات المختلفة، لكن ما حدث هو انعكاس الآية فبات محيط أوروبا يصدر لها عدم الاستقرار.

لقد كان في وسع الاتحاد الأوروبي تحمل كلفة موجة اللاجئين لو أن الوضع الاقتصادي يسمح بذلك، لكن تباطؤ النمو والضغط على دولة الرفاهية الأوروبية بسبب موجات المهاجرين من إفريقيا وشرق أوروبا ثم اللاجئين العرب جعلا الانعكاس السياسي والاجتماعي لهذا الأمر أيضا خطيرا على استقرار الدول أنفسها، وهو ما تجلى بالصعود السريع والقوي لليمين المتطرف الرافض لاستقبال المهاجرين واللاجئين ودمجهم في الدولة القومية. إن الستار الحديدي الذي طالما سعت أوروبا إلى إسقاطه تجد نفسها اليوم مرغمة على إعادة بنائه.

مفهوم "الحدود السائلة" يعني أن الدفاع عن حدود الدولة لم يعد مقتصرا على الحدود الصلبة والخطوط الفاصلة بين دولة وأخرى. إيقاف تدفق المهاجرين واللاجئين نحو أوروبا يعني أن على الاتحاد الأوروبي أن يكون جزءا من منظومة حل مشاكل شمال إفريقيا، بل أن يذهب الاتحاد لمدى أبعد في المساهمة في تنمية الدول الواقعة جنوب المتوسط كخط دفاع أول ضد تلك الموجات البشرية. مفهوم الحدود يتغير هنا ليصبح أكثر سيولة، ومفهوم الأمن يتغير ليصبح أكثر اندماجا بالتنمية، والدول لن تعود قادرة في المستقبل على الركون لفكرة الانكفاء على نفسها وغلق حدودها دون لعب دور سياسي فعال في محيطها.

المملكة من طرفها تواجه تحديا حقيقيا لحدودها السائلة، وبالأخص من جهتي اليمن والعراق المنزلقتين نحو عدم الاستقرار، وبصورة أقل من جهة الغرب، حيث يفصلها عن القرن الإفريقي بحر ضيق. حدود المملكة اليوم أصبحت ممتدة شمالا إلى الأنبار والمثنى وجنوبا إلى صعدة وعمران والحديدة. والتعامل مع هذا التحدي سيتطلب الذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد تعزيز الحدود الصلبة للدولة مع كل من اليمن والعراق، إلى اجتراح سياسات جديدة للتعامل مع هذا التحدي سياسيا وتنمويا. إن احتمالية حدوث تدفق بشري نحو المملكة من أي الاتجاهين ستظل قائمة، ويجب أن تؤخذ في الحسبان، خاصة إذا استمرت الأوضاع السياسية والاجتماعية هناك بالتدهور أو تحول الأمر إلى ورقة سياسية.

إن لعب دور سياسي وتنموي داخل حدود الدول المجاورة هو ضرورة أمنية وجزء من الدفاع عن حدود الدولة نفسها، فمواجهة عدم الاستقرار الذي يمكن تصديره لنا يتم بتصدير معاكس للاستقرار إلى داخل تلك المناطق. هذا الأمر يتطلب إعادة تعريف جزء من سياستنا الخارجية ليتناسق مع مفهوم الحدود السائلة الآخذ بالتشكل، ويضع بالحسبان أن فكرة عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى التي صبغت القرن الماضي قد تجاوزها الواقع السياسي للعالم اليوم.