خلال ما يقارب العام ونصف العام منذ تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم جرت أمور كثيرة وتطورات عديدة على صعيد المنطقة، وقامت المملكة في المقابل بالعديد من التحركات السياسية والعسكرية التي جعلت السعودية موضوعا شبه دائم على طاولة الصحافة العالمية.

منذ تولي الملك سلمان الحكم قامت المملكة بالانفتاح على القارة الإفريقية بشكل سريع وقوي دون إثارة كبيرة في الإعلام، ويلاحظ أن أكبر عدد من القادة الذين استقبلهم الملك سلمان في الرياض هم القادة الأفارقة، وبالأخص زعماء دول شرق إفريقيا. فالمملكة استقبلت خلال العام ونصف العام الماضي كل من رؤساء السودان وإثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال وتشاد وأوغندا والقمر والنيجر وموريتانيا والسنغال والجابون وزامبيا وجنوب إفريقيا.

ظلت القارة الإفريقية خارج دائرة الرؤية الإستراتيجية السعودية، ولم تشهد القارة أي زيارة لملك سعودي منذ جولة الملك فيصل -يرحمه الله- في 1972 لعدد من الدول الإفريقية، ولكن للأسف فإنه حتى اليوم لا توجد إستراتيجية واضحة لنا تجاه إفريقيا. تحرك الملك سلمان الجديد نحو إفريقيا يعد فتحا جديدا لسياستنا الخارجية في ظل الأهمية المتزايدة للقارة السمراء، وبالأخص منطقة القرن الإفريقي، وهو ما يستلزم أن تعيد أجهزة الدولة المعنية بصناعة سياستنا الخارجية النظر نحو إفريقيا بشكل أكثر شمولية. فخلال الستينات والسبعينات الميلادية ظلت رؤيتنا لإفريقيا محكومة بفكرة توسيع منظومة التضامن الإسلامي ومواجهة إسرائيل، وجاءت جولة الملك فيصل -يرحمه الله- ضمن هذا الإطار لرؤيتنا لإفريقيا. واليوم يعود انفتاحنا نحو إفريقيا مرة أخرى ضمن إطار محدود، ما يهدد بعدم الاستفادة مما يمكن أن يكون أهم إنجاز في سياستنا الخارجية مؤخرا.

التحرك السعودي في إفريقيا حكمه بشكل أساس مواجهة التواجد الإيراني هناك، وليس أبلغ على هذا الأمر من لقاء الملك سلمان بالرئيس السوداني عمر البشير ما لا يقل عن 4 مرات خلال عام واحد، وهو ما ترجم التحول الكبير في السياسة السودانية بالابتعاد عن المحور الإيراني وطردها البعثة الإيرانية في الخرطوم، ورغم أن هذا الأمر يعد نجاحا حقيقيا للدبلوماسية السعودية يؤكد ما مضى فيه عدد من المحللين بأن التمدد الإيراني حدث نتيجة الفراغ الذي خلفته المملكة بالابتعاد عن الساحات الحيوية في محيطها، إلا أنه سيظل نجاحا محدودا إذا لم يعد النظر في سياستنا الإفريقية من باب أكثر شمولية.

سياستنا في إفريقيا أشبه بفسيفساء لكنها لا تشكل لوحة، حيث لا يوجد إطار عام أو رؤية شاملة تجيب عن سؤال: ماذا نريد من إفريقيا، وماذا يمكن أن تقدم لنا باستثناء مواجهة إيران؟

متوسط النمو الاقتصادي في إفريقيا بلغ حوالي 6% في العام، و6 دول إفريقية كانت ضمن أسرع الاقتصادات نموّاً في العالم خلال السنوات الـ10 الماضية، وفي حين أن استثمارات المملكة في إفريقيا لا تمثل سوى 2% من حجم استثماراتها حول العالم فإن حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا ارتفع بنسبة 700% خلال التسعينات فقط. السوق الإفريقي الذي يمثل مليار نسمة يفترض بنا أن نكون بوابته، وغرب المملكة جغرافيا يفترض به أن يكون "جبل علي" جديدا لإفريقيا.

هذا الدور المأمول للمملكة لا يصب في مصلحتها الاقتصادية فقط، وإنما في مصلحتها السياسية كلاعب أساس في محيطها. ويبقى السؤال: أين ترى المملكة نفسها خلال السنوات العشر القادمة إقليميا؟

إفريقيا تقدم لنا فرصة كبيرة لإعادة تعريف وضعنا الإقليمي، وفرصة لكي تتناسق سياستنا الخارجية مع رؤيتنا الداخلية. فرؤية 2030 التي أعلنتها المملكة اعتمدت في عاملين من عواملها الثلاثة على قوة المملكة الاستثمارية وموقعها الجغرافي. هنا تصبح القارة الإفريقية موضع اختبار حقيقي لرؤية 2030 ومدى توافق الداخلي مع الخارجي. إن قوة أي دولة في محيطها الإقليمي مرهونة بقدرتها التأثيرية فيه على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وإذا نجحت المملكة في الدخول للساحة الإفريقية من بوابة القرن الإفريقي ابتداء من خلال الاستثمار ولعب دور اقتصادي كبوابة عبور للبضائع نحو إفريقيا، إضافة إلى لعب دور سياسي يفرض المملكة كقوة مهيمنة على حوض البحر الأحمر وجنوب باب المندب، فإن المكاسب السياسية للمملكة على مدى العقد القادم ستكون فائقة، وأهمها أن ستتحول إلى الوسيط السياسي الدولي (broker) لهذه المنطقة، مما يعطيها مقعدا دائما على طاولة القوى المؤثرة ويربط مصالح أي دولة راغبة في الوصول إلى تلك المنطقة الحيوية بمصالح المملكة.

اتخذت المملكة عدة خطوات جادة في القارة الإفريقية بدءا من تحويل الموقف السوداني ومرورا ببناء قاعدة عسكرية في جيبوتي وانتهاء بمواجهة الوجود الإيراني في بعض الدول مثل إريتريا من خلال سياسة الترغيب المالي. كل هذه الخطوات لا تزال تتم من خلال منظور سياسة احتواء إيران، لا من خلال سياسة التوسع السعودي المطلوب إقليميا، وهو ما سيجعل هذه الخطوات غير مستدامة وقائمة على رد الفعل. مصالح المملكة الدولية تعتمد على منظومة متكاملة من القوة الاقتصادية وقدراتها لأن تكون الرابط الأمثل بين تجارة الغرب والشرق، إضافة إلى الدور السياسي في الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي، ومثل هذا الدور الإقليمي الواسع هو ما يضمن بقاء المملكة لاعبا دوليا أساسيا ويضمن تفوقها على إيران.

إفريقيا تمثل فرصة كبيرة لنا على مدى العقود القادمة، وإذا أحسنا استغلالها قد يكون انفتاحنا الإفريقي أحد أهم إنجازات سياستنا الخارجية.