إن العامل الأول الذي سينظر له أي دارس للجغرافيا السياسية للمملكة هو الشح المائي الذي تعاني منه المملكة، فأي دولة تعاني من فقر المياه محكوم عليها بمواجهة سلسلة صعبة وحقيقية من المتاعب. التحدي المائي في المملكة هو التحدي الأول والحقيقي لها، ومن ينظر لتاريخ الجزيرة العربية في سياقه الأوسع يري أن أحد الاتجاهات التاريخية (historical trends) لهذه المنطقة كان على الدوام فقرها في الثروات الطبيعية وخاصة المياه مما جعلها منطقة طاردة للسكان كلما زاد الفائض السكاني عن قدرة الأرض على استيعابه، وموجات الهجرات العربية على مدى الزمن توضح هذا الاتجاه التاريخي، الذي لم ينعكس سوى في القرن العشرين بعد اكتشاف النفط، حيث تحولت الجزيرة العربية لمنطقة جاذبة للسكان وباتت لديها القدرة على مواجهة التحدي المائي من خلال استخدام الطاقة لتحلية مياه البحر أو الاستفادة من الثروات التعدينية.

قد نكون بحاجة لبعض الترشيد في استهلاكنا للمياه (الاستهلاك السعودي الحالي 3.3 ملايين متر مكعب في اليوم)، لكن الزيادة الطبيعية في عدد السكان ستعني في النهاية حتمية التوسع في قدراتنا لتوليد المياه المحلاة وفي زيادة مخزوننا الإستراتيجي منها، (يبلغ المخزون الإستراتيجي للمملكة من المياه ما مقداره مدة 3 أيام فقط من الاستهلاك بحسب بعض الدراسات، وإن كان برنامج التحول الوطني يشير إلى أنه 0.7 يوم فقط!).

حاجتنا للمياه والكهرباء بالتبعية دفعتنا لمحاولة البحث عن حلول مستدامة لتوليدها خارج إطار استخدام النفط كمورد للطاقة، وعليه أعلنت المملكة في 2009 من خلال مرسوم ملكي نيتها لاستخدام الطاقة الذرية كإحدى تلك الوسائل، وفي 2011 تم الإعلان عن خطة لبناء 16مفاعلاً نووياً على مدى 20 عاماً لتوليد ما يقرب من 20% من احتياجاتنا الكهربائية بتكلفة تصل إلى 100 مليار دولار.

سياساتنا المائية كانت متخبطة على مدى عقود، فبرنامج زراعة القمح بشكل خاص ومشاريعنا الزراعية بشكل عام استنفدت جزءا كبيرا من مخزون مياهنا الجوفية، وخاصة من طبقتي الساق (في الشمال) والوجيد (في الجنوب)، ومع وجود ما يقرب من 18 طبقة مائية في المملكة، إلا أن أغلبها يعد مصادر مياه غير متجددة (80% من مصادر مياهنا الجوفية غير متجددة)، أي أنها مثل النفط ستأتي يوما وتنفد بالكامل، وعلى العكس من النفط لا يمكن لنا البقاء دون ماء. إن إنتاج كيلو واحد من القمح يستلزم ما بين 500 إلى 4000 لتر من المياه، وكوب حليب واحد (250 مل) يحتاج إنتاجه ما يقرب من 250 لترا من المياه، ومع ذلك نفاخر بأننا من أكبر منتجي الألبان في الشرق الأوسط!

عندما بدأت المملكة مشوار التنمية كان باطن الأرض يحتضن ما مقداره 500 مليار متر مكعب من المياه الجوفية، واليوم استهلكت المملكة أربع أخماس مياهها الجوفية ولم يتبق لنا سوى 100 مليار متر مكعب من مياه غير متجددة، (يبلغ حجم الاستهلاك السنوي للمياه الجوفية غير المتجددة 12 مليار متر مكعب والمياه السطحية المتجددة 8 مليارات متر مكعب). ورغم أننا نعتمد على تحلية مياه البحر لتغطية 59% من استهلاكنا فلا يزال 41% من الاستهلاك يعتمد على المياه الجوفية والسدود. ولكن عملية تحلية المياه تشكل تحديا في حد ذاتها، فإنتاج مليون جالون من المياه المحلاة يستهلك 15 ألف كيلو-وات في الساعة من الكهرباء، وفي عام 2014 استهلكنا 80 مليون برميل من النفط لتحلية المياه!

في 2001 أصدر معالي وزير الزراعة والمياه السابق الدكتور عبدالله بن معمر تصريحاً بأنه توجد كميات كبيرة من المياه الجوفية في طبقة الوسيع (الممتدة من شرق البلاد حتى جنوب الربع الخالي) تكفي الرياض 400 عام. وموضوع طبقة الوسيع هذه مثير للجدل، فطبقًا لبعض الدراسات تسبح رمال الربع الخالي على بحيرة مياه جوفية عذبة بقدر مياه الخليج العربي. في عام 2002 صرح الوزير ابن معمر أنه تجري استكمال الدراسات التفصيلية والمسوحات النهائية للمياه التي تقع تحت الربع الخالي، وبعدها بعقد في 2013 صرح وزير المياه والكهرباء السابق المهندس عبدالله الحصين أن الوزارة بصدد الانتهاء من دراسة تقييم المياه الجوفية في الربع الخالي.

لا نعلم مصير الخطة الوطنية للمياه التي كانت الوزارة تعمل عليها، لكن برنامج التحول الوطني وفي هدفه الإستراتيجي الثاني عشر المتعلق بتعزيز مصادر وأمن الإمداد أشار إلى أن المستهدف رفع القدرة المتاحة من المياه السطحية والجوفية من 4.1 ملايين متر مكعب في اليوم إلى 6,1 في 2020، وكذلك المياه المحلاة من 5.1 إلى 7.3 ملايين متر مكعب في اليوم. لا يبدو أن استهلاكنا للمياه الجوفية التي يفترض تعزيزها كمخزون استراتيجي سيقل، وفي المقابل فإن نسبة الزيادة في إنتاج المياه المحلاة ليست بالقدر الذي كان يأمل فيه البعض. إن 60% من إنتاج المياه المحلاة في العالم يتم في منطقة الخليج التي ارتفع فيها الطلب على المياه خلال عشر السنوات الماضية فقط 140%، علماً بأن 85% من الاستهلاك الخليجي للمياه يتوجه للزراعة. والسؤال هنا، ماذا سيتم بخصوص تخفيض نسبة استهلاك المياه للزراعة مقابل تأمين مصادر للأمن الغذائي، (لا تزال إستراتيجية الأمن الغذائي قيد الإعداد)؟ ثم ما هو دور الطاقة الذرية في هذا الأمر مقابل الاعتماد على مصادر طاقة أخرى كالمتجددة بدلاً منها؟

معضلة مشروع الطاقة الذرية هو أن مفاعلات الماء الخفيف المزمع بناؤها تعتمد على الماء العذب للتبريد، وفي حالة عدم كفاية التبريد ينصهر قلب المفاعل كما حدث لمفاعل تشيرنوبل، وعليه تستهلك مثل هذه المفاعلات ما مقداره مليار جالون من المياه في اليوم (يتبخر منها حوالي 800 جالون من المياه لكل ميغا-واط في الساعة)، ويبلغ متوسط كفاءة المفاعلات النووية 33%، أي أنه لكل 3 وحدات حرارية ينتجها المفاعل يتم إنتاج وحدة طاقة كهربائية واحدة. هذه الحاجة المستمرة للتبريد هي ما يجعل أغلب المفاعلات تبنى على ضفاف الأنهار والبحيرات أو أي مصدر للمياه. وفي حالة استخدام مياه البحر للتبريد فإن الترسبات الملحية قد تعزل قلب المفاعل، وهذا ما حدث لمفاعل فوكوشيما في اليابان بعد غرقه من موجة التسونامي.

الطاقة النووية ستستهلك مياها بقدر ما تنتج، وهو ما يدفع للتساؤل عن جدواها في ظل وجود مصدر أكثر أمانا من الطاقة المتجددة يمكن استخدامه لتحلية المياه. في المملكة يبلغ عدد ساعات الشمس 3000 ساعة في السنة، بينما في ألمانيا 500 ساعة فقط، ومع ذلك تشكل الطاقة المتجددة 17% من حجم إنتاج الكهرباء في ألمانيا، بينما المستهدف للطاقة المتجددة في برنامج التحول الوطني لمدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة هو الوصول لنسبة 4% فقط عام 2020.

إن بناء مشروع طموح لبناء مفاعل نووي لأغراض توطين هذه التقنية ونقل المعرفة حتى نكون قادرين على المنافسة وإن كان عسكرياً، وكذلك بناء 16مفاعلاً لإنتاج الطاقة والمياه، أمران في غاية الصعوبة، لأننا لا نملك البنية التحتية والمعرفية اللازمة مع خطورة مثل هذه المشاريع، والأولى أن نصرف الجهد والمال اللازم لها لتوطين ونقل تقنيات الطاقة المتجددة وتقنيات استخراج المياه وحفظها.