صدرت رؤية المملكة 2030 وبرنامجها التنفيذي للتحول الوطني 2020 بناء على نقطة انطلاق أساسية تتعلق بالشأن الاقتصادي والتنموي الداخلي، وهي بطبيعة الأمور نتاج عمل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. لكن الرؤية ارتكزت على ثلاثة عوامل لنجاحها، هي العمق العربي والإسلامي والقوة الاستثمارية والموقع الجغرافي. وكل هذه العوامل بصورة أو أخرى لها منطلقات وكذلك انعكاسات سياسية، بالأخص العامل الثالث: الموقع الجغرافي. مما يدعو إلى التساؤل ما إذا كانت المملكة تملك مع هذه الرؤية بالتزامن رؤية تتعلق بسياستها الخارجية والوضع الإقليمي من الآن وحتى 2030؟

الاستشراف المستقبلي للأوضاع السياسية ليس أمراً سهلاً، حيث تتعدد العوامل المؤثرة عليها وتتشكل المتغيرات باستمرار، ومع ذلك تظل عملية الاستشراف السياسي (political forecast) ضرورة للدول، وخاصة تلك التي تملك رؤى اقتصادية للمستقبل، حيث تصبح السياسة جزءًا مؤثراً بشكل أو آخر على مسار تلك الرؤى.

كتب جورج فريدمان في مقدمة كتابه "المئة عام القادمة" (The Next 100 Years: A Forecast for the 21st Century) يقول: تخيل أنك تعيش في لندن عاصمة أقوى دولة في العالم صيف عام 1900، بالكاد تجد دولة لا تتحكم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر قوة استعمارية أوروبية، ونتيجة لارتفاع مستوى التجارة والاستثمار العالمي بدا للمفكرين وقتها أن فكرة الحرب مستحيلة وأن العالم بصدد عهد من السلام والرخاء الشامل. ثم تخيل نفسك انتقلت إلى عام 1920، حيث خرجت أوروبا من حرب عالمية مدمرة إنسانياً واقتصادياً مات فيها الملايين وانهارت على إثرها أربع إمبراطوريات عريقة، العثمانية والروسية والألمانية والنمساوية-المجرية، وصعدت على إثرها قوى جديدة، الولايات المتحدة واليابان. ثم انتقل إلى عام 1940، حيث أصبحت الشيوعية في روسيا قوة جديدة وعادت ألمانيا لتصبح قوة عالمية باحتلال أجزاء كبيرة من أوروبا بالتحالف مع عدد من الدول، بدا وقتها أن ألمانيا ستهيمن على العالم وتصبح القوة العظمى فيه. ثم انتقل إلى عام 1960: تفككت ألمانيا إلى دولتين وأصبح العالم رهين حرب باردة بين قطبين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وانهارت الإمبراطوريات الأوروبية وتحولت القارة الأوروبية إلى مسرح صراع، وصعدت حركات التحرر حول العالم. ثم انتقل إلى عام 1980، حيث بدا أن الولايات المتحدة بصدد التراجع بعد هزيمتها في فيتنام، وتبدلت السياسات العالمية وانفتحت الولايات المتحدة على الصين الشيوعية التي أصبحت قوة عالمية صاعدة. ثم انتقل إلى عام 2000، حيث انهار الاتحاد السوفيتي وتبدلت خريطة أوروبا وأصبحت الصين القوة الصاعدة عالمياً اقتصادياً وسياسياً، وارتفعت معدلات التجارة والاستثمار العالمي بشكل كبير حتى بدا للجميع أن فكرة الحرب مستحيلة، وأن العالم بصدد عهد من السلام والرخاء الشامل.

إذا كان العالم مر بتطورات كبيرة وسريعة في القرن العشرين فإن التطورات في القرن الحادي والعشرين ستكون أسرع وتيرة وأكثر حدة. جورج فريدمان يعد أحد المتخصصين في مجال التحليل الجيو-سياسي (geopolitics)، وكتابه قد يبدو للوهلة الأولى صادماً أو ضرباً من الخيال عندما يتنبأ بعدد من الأمور من قبيل نشوء قوى صاعدة في 2050 تتمثل في بولندا وتركيا واليابان مما يؤدي إلى حرب بين الولايات المتحدة واليابان وتركيا، كما أنه يتنبأ بحدوث صراع بين الولايات المتحدة والمكسيك بحلول 2080. إن أي محلل لا يملك "بلورة سحرية" يرى المستقبل من خلالها، ولكن هناك مناهج للتحليل تستطيع أن تضيء لنا بعض الاتجاهات (trends) المستقبلية.

تتعامل الجغرافيا السياسية مع بعدين رئيسين في التحليل، المكان (place) الذي يتناول علاقة المؤثرات الجغرافية الداخلية على سياسة أي دولة، والموقع (position) الذي يتناول علاقة الدولة مع محيطها الجغرافي. ومن هذا المنطلق يمكن لمنهج التحليل الجيو-سياسي أن يساعد على استشراف المستقبل من خلال النظر إلى العوامل الأكثر استدامة في التأثير على سياسة أي دولة، ففي نهاية المطاف تظل الجغرافيا عاملاً ثابتاً ضمن كل المتغيرات التي تؤثر في السياسية، نظراً لطبيعة الجغرافيا الثابتة.

إذا أرادت المملكة أن تظل منافساً دولياً على الساحة السياسية أو أن تتحوط من المنافسين الآخرين والتغيرات التي قد تطرأ على العالم، فإنه لا مناص من أن يكون لدينا سعي حقيقي إلى دراسة الأوضاع واستشراف الاتجاهات التي قد تؤثر على مستقبلنا. وهناك عدد من الاتجاهات التي يمضي فيها العالم، وسيكون لها تأثير كبير علينا، ويمكن ذكرها كأمثلة:

هناك توجه عالمي يسعى إلى الاستفادة من منطقة القطب الشمالي كمسار بديل بين الشرق والغرب عن المحيط الهندي ومضائقه، وتأسيس مجلس القطب الشمالي بداية هذه الخطوات، فاستخدام محيط القطب الشمالي كخط ملاحة سيوفر وقت وتكلفة نقل البضائع بين الصين وألمانيا -مثلا- بحوالي 50%، كما أنه من جهة أخرى سيوفر بديلا آمنا، حيث لا يوجد في الخط سوى مضيق واحد (مضيق بيرنج) بين الولايات المتحدة وروسيا، وذلك عوضاً عن الحاجة إلى تأمين مضائق ملاكا وباب المندب والسويس وجبل طارق للوصول من المحيط الهادي إلى الأطلسي.

لقد كان اكتشاف مضيق رأس الرجاء الصالح إيذانا بتغير كبير على الخارطة الدولية، إذ أتاح الانتقال بين الشرق والغرب دون الحاجة إلى المرور بالمنطقة العربية، وهو ما قتل اقتصاد الإمبراطوريات العربية في فترة زمنية معينة، ومن شأن صعود مسار القطب الشمالي أن يؤذن بانتهاء الأهمية الإستراتيجية لموقعنا الجغرافي، وبالتبعية الحاجة الدولية السياسية والأمنية والاقتصادية لدولنا. اهتمامنا بالمحيط الهندي لإبقائه أهم مسطح مائي عالميًا يستدعي أن نستشرف المستقبل ومآلاته، وأن نطرح كثيراً من الأسئلة الصعبة من قبيل: هل سيستدعي الأمر أن نقوم بتغيير هيكلي في منظومة تحالفاتنا كالانتقال من التحالف مع باكستان إلى الهند مثلاً؟ وما هي رؤيتنا لحالة المحيط الهندي في ظل الانتقال الإستراتيجي العسكري للولايات المتحدة من المحيط الهندي إلى الهادي.

أيضا تعول المملكة كثيراً على تطور علاقتها بالصين سياسياً واقتصادياً، لكن الصين مهمومة بمشروعها الإستراتيجي "طريق الحرير"، وهي تسعى إلى التمدد في آسيا وصولاً إلى أوروبا. ضمن هذه الرؤية الصينية تصبح إيران رمانة الميزان في مشروعها، ولعل خبراً صغيراً في 15 فبراير الماضي لم يتنبه له الكثيرون يعد أهم خبر جيو-سياسي لنا، حيث وصل قطار بضائع من محافظة تشيجيانج أقصى شرق الصين إلى طهران مرورا بكازاخستان وتركمانستان، وذلك خلال 14 يوماً فقط قاطعاً 10 آلاف كيلومتر. هذه الرحلة اختصرت 30 يوماً من المسار الملاحي بين مينائي شانغهاي وبندرعباس، ولذلك لم يكن اعتباطاً أن يعلن الرئيس الصيني خلال زيارته لإيران بعد رفع العقوبات مباشرة أن الصين تسعى إلى رفع علاقتها الاقتصادية بإيران إلى 600 مليار دولار خلال الأعوام العشرة القادمة. كيف نخطط للمستقبل ونحن نرى هذه التوجهات المستقبلية؟ وكيف نتحوط من الصعود الصيني في آسيا الذي سيأتي على حسابنا في العلاقة مع إيران؟ وهل روسيا بديل إستراتيجي يمكننا التحالف معه للتحوط من الصين؟

إن المضي برؤية وخطة للداخل على مدى العقود القادمة يجب أن يتوافق مع رؤية وخطة لسياستنا الخارجية، وعملية الاستشراف تتطلب أن يكون هناك فريق عمل يسعى إلى الإجابة عن سؤال: كيف سيكون شكل العالم خلال الخمسين عاماً القادمة؟ وكيف سيكون دورنا نحن خلالها؟