أصدر مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الرياض (UNDP) بالتعاون مع وزارة الخارجية والمالية والصندوق السعودي للتنمية ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في 15 مايو الماضي تقريراً بعنوان "المساعدات الإنمائية الرسمية للمملكة العربية السعودية"، قدم حصراً وتحليلاً للمساعدات الإنسانية والتنموية التي قدمتها المملكة منذ عام 2005 وحتى 2014.

استعراض أبرز ما جاء في التقرير لافت جداً، فمن المعروف أن المملكة منذ عهد الطفرة النفطية في السبعينات أصبحت واحدة من أكبر الدول المانحة في العالم، لكن المملكة ظلت على الدوام ترفض الإفصاح عن حجم مساعداتها الخارجية بالشكل المطلوب من باب أن "الصدقات في السر أعظم أجرًا منها في العلن"، ولكن ما قد ينطبق على الأفراد لا ينطبق على الدول. إن الإنجاز الذي حققه هذا التقرير هو حصره بشكل رسمي ودقيق لأول مرة وبالتفاصيل حجم المساعدات التي قدمتها المملكة في الفترة المذكورة، وهو أمر من الأهمية بمكان لا مجرد استمراره بل العمل على تطويره.

يوضح التقرير أن مجموع المساعدات السعودية بلغ من 2005 وإلى 2014 حوالي 165 مليار ريال (44 مليار دولار)، وبين عام 2013 و2014 فقط ارتفعت المساعدات بنسبة 230%، وهو ما جعل المساعدات الإنمائية المقدمة من المملكة في 2014 تبلغ نسبة 1،9% من الدخل القومي، وهي أعلى نسبة وصلت إليها أي دولة، مما جعل السعودية أكبر مانح في العالم كنسبة من الدخل القومي، ومن أكبر عشرة مانحين في العالم كمبلغ إجمالي.

أهمية النسبة المذكورة للمساعدات من الدخل القومي تنبع من كون الدول المانحة قد ألزمت نفسها في قمة مونتيري 2002 وكأحد أهداف الألفية للتنمية، بأن تقدم كل دولة مساعدات إنمائية بنسبة 0،7 من الدخل القومي، وهو ما نجحت المملكة إلى حد كبير في السنوات الأخيرة للوصول إليه، إلى 2014، حيث حققت أعلى نسبة، ومن المتوقع أن يستمر تحقيق المملكة نسبا عليا في تقديم المساعدات، وذلك لاستمرارها بالالتزام بتقديم المساعدة لعدد من القضايا وعلى رأسها اليمن وسورية.

أغلب المساعدات التي قدمتها المملكة كانت عبارة عن منح ومساعدات إغاثية (78%)، بينما بلغت القروض التنموية الميسرة للدول 12%، بينما إجمالي المساهمات للمنظمات والمؤسسات الدولية 10%. وتقدم هذه المساعدات إما بشكل ثنائي مباشر للدول من خلال وزارة المالية أو الصندوق السعودي للتنمية أو مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، أو من خلال المنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة أو بنوك التنمية التابعة لعدد من المنظمات الدولية.

اللافت في التقرير أنه يتناول فقط المساعدات الإنمائية التي تندرج تحتها المساعدات الإنسانية والإغاثية ولا يتضمن المساعدات المالية المباشرة للدول والتي تعد مساعدات سياسية، كما أن اللافت أنه خلال الفترة المذكورة كانت أكبر دولتين تلقتا مساعدات من المملكة هما لبنان والعراق بأكثر من نصف مليار دولار لكل واحدة منهما، تلتهما اليمن وسورية. وإذا كانت المملكة بطبيعة الحال تعطي الأولوية في مساعداتها للدول العربية والإسلامية فإن هذا لم يمنع من أن تشمل مساعداتها العديد من الدول حول العالم، فالسعودية – على سبيل المثال – كانت رابع أكبر متبرع لدولة هايتي عقب زلزال 2010.

يعد الصندوق السعودي للتنمية الذراع الأساس في إدارة وتقديم المساعدات السعودية الإنمائية، ومؤخراً أضيف ذراع ثان يتمثل في مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية. يقوم الصندوق السعودي للتنمية بتقديم منح وقروض ميسرة لمشاريع تنموية، وقد بلغ عدد الدول التي قدم لها الصندوق مساعدات منذ إنشائه في 1975 حوالي 83 دولة. كما أن الصندوق يدير أغلب المنح والقروض المقدمة من وزارة المالية سواء للدول أو المنظمات الدولية. لكن عمل الصندوق منذ إنشائه ظل تقنياً بشكل كامل وغاب عنه بطبيعة الأمور تداخله مع العمل السياسي الذي ينضوي تحت مظلة وزارة الخارجية، وهنا مرد التباين الكبير الذي جعل استفادة المملكة سياسياً من حجم مساعداتها الهائل ضعيفاً.

إنشاء مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في 2015 جاء لتغطية فجوة كبيرة في عملية تقديم المساعدات الإنسانية التي كانت مشتتة قبل ذلك بين عدة جهات، فمن جهة سيعمل المركز على أن يكون ضامنا لتوجيه أي تبرعات من مؤسسات محلية إلى مناشطها الحقيقية وليس لجهات غير معلومة، ومن جهة أخرى سيعمل المركز على أن يكون الجهة المركزية التي تتعامل مع المؤسسات الدولية فيما يتعلق بمساعدات المملكة في المجال الإنساني، وذلك بالتدقيق في كيفية صرف هذه المساعدات إضافة إلى قيام المركز بتنفيذ المساعدات بنفسه وهي خطوة مهمة. إن أحد أسباب ضعف تأثير المساعدات السعودية التي قدمت في السابق لمؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة هو أن المملكة كانت تقدم أموالها بصورة غير مشروطة ولا تتابع إجراءات الصرف، ومن المعلوم أن مؤسسات الأمم المتحدة تنفق حوالي 20% من حجم التبرعات كمصاريف إدارية لها. تفرق دم المساعدات الإنسانية السعودية بين قبائل الجهات المختلفة أضعف تأثير هذه المساعدات، فوزارة المالية تعاملت مع المساعدات على أنها مجرد جزء من مصاريف الدولة دون الاهتمام بالبعد السياسي، ولذلك حتى إنشاء المركز لم تكن المملكة تسجل مساعداتها في نظام تسجيل المساعدات الإنسانية التابع للأمم المتحدة (FTS)، ومن جهتها لم تتمكن وزارة الخارجية من الاستفادة السياسية من هذه المساعدات كونها تتبع جهة أخرى ويغيب التنسيق بين الجهات الحكومية حولها.

حجم المساعدات التي تقدمها المملكة للدول المختلفة بات يستلزم النظر في إنشاء وزارة للتعاون الدولي، فوزارات التعاون الدولي باتت جزءاً من منظومات عمل الكثير من الدول، ومهمتها الأساسية تتلخص في كونها الجهة المسؤولة عن تنسيق أوجه التعاون المختلفة للدولة، بدءاً من المنح والمساعدات وانتهاءً ببرامج التعاون بين الوزارات المختلفة ونظيراتها في الدول الأخرى، ما يعني مزيداً من الترشيد في العمل وتوسيع دائرة التعاون وتطويره، مثل هذه الوزارة في المملكة ستعني أن الحجم الكبير لمساعداتنا الخارجية سيصبح منطلقاً من إستراتيجية تجمع البعد السياسي بالبعد الإداري بالبعد التنموي الإنساني. فلا يمكن لوزارة المالية على سبيل المثال أن تعي الحاجات السياسية لتقديم دعم لدولة ما، وفي المقابل لا يمكن لوزارة الخارجية أن تتكفل بحجم عمل إداري ومالي كبير يتعلق بتقديم المساعدات التنموية.

المساعدات الخارجية رغم كوننا نراها واجباً تجاه الأشقاء والإنسانية لكنها تظل في نهاية المطاف جزءًا من منظومة العلاقات مع الدول الأخرى، ومن ثم لا بد أن تكون هناك جهة مركزية مسؤولة عنها وتعمل على تطويرها، فمساعداتنا المعتمدة بشكل أساس إما على القروض التنموية للدول أو المنح الإغاثية تفتقد بعداً آخر غاية في الأهمية وهو الدعم المباشر لمواطني الدول المحتاجة وللمؤسسات الصغيرة في تلك الدول، وهذا مجال غائب عن مساعداتنا الخارجية ويفقدنا ركيزة الاستدامة في هذه المنح ويفقدنا ركيزة التواصل المباشر مع الشعوب الأخرى. ومن جهة أخرى لا بد أن يكون لمساعداتنا جرد حساب سياسي، فلا يعقل أن تكون أغلب مساعداتنا منحا غير مستردة ونجد في نهاية المطاف أن هذه المساعدات لم تؤت ثمارها، ولبنان –أكبر متلق للمساعدات السعودية– أكبر مثال على ذلك اليوم. إن وزارة للتعاون الدول سيكون على مائدتها الكثير من العمل، ولعل النظر في دمج مركز الملك سلمان والصندوق السعودي للتنمية ضمن كيان جديد خطوة أولى.