ما أبشعه من مصير حين تصحو من نومك فتجد أقرب من تحب وترجو من هذه الحياة، ومن كنت تحلم بأن تشاركه أجمل أحلام العمر السعيد المديد؛ جثة هامدة في مشهد قتل جماعي أعمى على الهوية في أوطان كانت بالأمس واحات للأحلام، وأصبحت اليوم ساحة للإعدام والتصفية الجسدية والتطهير العرقي والمذهبي الممنهج.

ما أثقله من خيار إجباري حين تجد نفسك في أفضل حالاتك مضطراً إلى الخيار بين المنافي أيها أقرب إليك، فتحمل ما خف حمله من متاع الحياة وترحل إلى وجهة لا تدري إن كنت ستبلغها أم سيحول الموت دون بلوغها.

فالحمد لله على نعمة الوطن التي لا أدري كيف ما زال بعضنا لا يقدرها حق قدرها حتى الآن والناس يتخطفون من حولنا، في منطقة تعصف بها الاضطرابات وتضربها بقوة، وما بلادنا منها ببعيدة، إن لم تكن في قلبها وأحد أكبر أهدافها، وعلى الرغم من ذلك ما زالت المنشورات والتعليقات غير المسؤولة التي تهدم ولا تبني وتثير الفرقة والنقمة بين الناس متداولة على مواقع التواصل في حالة أشبه بالجنون، فأي عقل في إثارة البلبلة والإرجاف بين الناس في مثل هذا الظرف الذي نعيشه؟ وهل هناك عاقل أصلاً لا يدرك حتى الآن أننا لم نعد نملك ترف الأحاديث غير المحسوبة في كل اتجاه دون ضابط أو رابط أو وازع من ضمير وطني؟ لماذا يتعامى بعضهم عن كون بلادنا مستهدفة وتتربص بها الدوائر من أعدائها على اختلاف هوياتهم؟ أم أن هذا الذي يكتب مقصود به ضرب أسافين الفرقة بيننا وزعزعة استقرارنا وضرب لحمتنا الوطنية حول قيادتنا في مقتل..؟ فلهؤلاء نقول: هيهات هيهات لما توعدون.. إن هي إلا أمانيكم ومساعيكم الخائبة في وطن كريم علم أجياله قيم الوفاء والولاء وحكمة الترابط والإخاء، ولنا في بعض التجارب والمحاولات الخائبة بعد ما وصف بالربيع العربي أسوة حسنة، حين هم أحدهم بالدعوة إلى الفوضى، وكيف كفى الناس رجال الأمن مؤونة الإمساك به، وكيف أصبح دور رجال الأمن يومها تخليصه من أيدي الناس حتى لا يفتكوا به، وكيف خرج الشبان إلى الشوارع والميادين يهتفون بحب ولاة أمرهم؛ ليقطعوا الطريق على كل مرجف مغرض هماز مشاء بالفرقة بينهم.

لكن يبقى الخوف على الصغار، هذه الصفحات البيضاء التي يستبق أكثر من عدو على صفحات مواقع التواصل لاصطيادها، وملئها بعبارات التكفيريين الجاهزة التي يصادرون بها أذهان المراهقين ممن لم تستقر في عقولهم بعد تعاليم شرعنا المطهر الذي يعظم حرمة النفس، نفس مسلم كانت أو غير مسلم، والنتيجة ما نشعر حياله بالصدمة اليوم من جرائم قتل إرهابية ما كانت لتخطر لنا على بال، وتعرُّض لذوي الأرحام والوالدين بالقتل والتنكيل، واستهداف لرجال الأمن الذين يخدمون ضيوف الرحمن في الحرم النبوي الشريف، في مشهد انعدام تام للمروءة والإنسانية، ما هو إلا ثمرة فوضى الكلام التي نعيشها، وعدم الشعور بالمسؤولية، وعدم اتقاء الله في كل ما نكتب ونشارك ونروج على مواقع التواصل الاجتماعي غير مدركين أن هذا الذي نشاركه قد يتسبب في البلبلة عند مراهق لا يملك من الدراية أو الوعي ما يمكنه من وزن الأمور بميزان العقل، فتكون النتيجة ارتماءه في أحضان رموز الفكر التكفيري الذين ينعقون على مواقع التواصل ليلاً ونهاراً بحثاً عن فرائسهم من المراهقين ليجندوهم ويدربوهم على فنون القتل والتنكيل والتدمير، من دون أن يكلفهم الأمر حتى عناء تمويلهم، فدورهم يقتصر أحياناً فقط على إرشادهم إلى الطريقة التي يتحولون بها إلى قنابل بشرية تنفجر فينا، وتهدد مقدراتنا ومستقبل أجيالنا، ولقد رأينا كيف أصبح في وسع مهاجم "نيس" الفرنسية قبل أيام أن يزهق عشرات الأرواح من دون كثير عناء، فقط كان عليه أن يقفز خلف مقود الشاحنة ويقتحم هذه الجموع، في مشهد مريع يثير الفزع من قدر الدموية التي أصبحت تفكر بها هذه الكائنات المتحولة التي تكشف لنا النظرة العميقة عن أنها في الأول والأخير صناعة فكر تكفيري بالغ الخطورة على الإنسانية، حتى إن التقارير الأولية الواردة من فرنسا تقول إنه يبدو أن المهاجم تحول إلى الفكر المتطرف بسرعة، وهذا يعني تطوراً في الخطاب التكفيري تجعله أكثر فعالية وتأثيراً في عقول معتنقيه، وأن يختزل الإسلام في عقولهم في الجهاد وفق مناهجهم الدموية الباطلة، الأمر الذي يضعنا جميعاً على المحك، ويضع كلاً منا أمام التزام أخلاقي، ودور يتوجب على كل منا، سيسأل عنه أمام الله، الوالد سيسأل عن إهماله لأولاده وتركهم من دون حوار يطمئن من خلاله على سلامة تفكيرهم وتوجيههم الوجهة السليمة الآمنة في الحياة وعلى مواقع التواصل، والمسؤول التعليمي مديراً كان أو معلماً سيسأل عن دوره في مواجهة هذا الفكر الضال ولو بتخصيص حصص محددة للحديث مع الطلاب وتوعيتهم وتنشئتهم بروح عقيدتهم السمحة، وتنقية عقولهم من أي فكر إقصائي معادٍ للآخر، وتدريبهم على مبادئ الحوار وقيمه في مواجهة العنف والتطرف، وفق برامج تثقيف وطني، أرى أنه آن أوانه في مواجهة فكر دموي يجدد أدواته وخططه ومناهجه للاستيلاء على ناشئتنا.

علينا أن نبادر أيضاً بخطط خلاقة إبداعية لمواجهته، فمعركتنا مع هؤلاء فكرية بالأساس في تقديري، قبل أي شيء آخر. ويبقى أن نوصي إخوتنا المغردين والمشاركين والمعلقين باتقاء الله في هذا الوطن الذي ليس لنا بعد فضل الله غيره، فليقل أحدهم خيراً أو ليصمت.