الخلافة الإسلامية والإمامة من أكثر المفاهيم الإسلامية التي تعرضت للتشويه والابتذال في وقتنا الحاضر، وأضحت مثل هذه المفاهيم مرتبطة بالإرهاب في العالم، حيث استغلتها وتبنتها المنظمات الإرهابية المتطرفة كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية والإجرامية، وأيضاً من أجل التعبئة وحشد الأنصار والأتباع، عن طريق التعامل مع هذه المفاهيم على أساس الانتقاء والاختزال وعزل النصوص الدينية عن سياقها لإثبات وقع التسليم والانصياع لها على نحو مسبق، لأن مثل هذه المفاهيم قد استقرت كمسلمات ثابتة في الوعي الجمعي للمجتمعات الإسلامية.

وما نشهده اليوم للأسف الشديد من قتل وتدمير وإرهاب وسفك للدماء وترويع للآمنين تحت مسمى الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة أو مسمى منهج الأئمة المعصومين، يعد إساءة وتشويها للإسلام دين التسامح والسلام من أجل جذب السذج والأغبياء وممن ينطلي عليهم استخدام الشعارات الدينية، وحتى بعض علماء المسلمين اليوم وقفوا عاجزين أمام أفكار تلك المنظمات الإرهابية مكتفين بالقول بأن: "الخلافة قضية شرعية لها شروطها وضوابطها التي استقرت في كتب الفقه منذ قديم الزمان"!

وبالطبع فإن المستقر في الفقه من شروط وضوابط يستخدمه الإرهابيون فكريا حسب المفهوم السائد لدى الناس وبتطبيق عملي في وقتنا الحاضر، بالرغم من أن مسألة الخلافة والإمامة عبارة عن اجتهاد لفقهاء المسلمين الأوائل ابتكروه كنظام للحكم يتوافق مع ظروفهم وبيئتهم الاجتماعية آنذاك.

فالفقهاء الأوائل يعترفون صراحة بأن مفهوم الخلافة في القرآن الكريم يتمثل في إنابة "النوع الإنساني في إعمار الأرض وإصلاحها" كما جاء في قول الله -عزّ وجل-: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره) فاطر /39، وفي قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة/ 30. والاستخلاف في هذه الآية ليس لشخص آدم، عليه السلام، وإنما للنوع الإنساني كما يقول المفسرون.

وعلى هذا الأساس، فإن مفهوم "الخليفة" ينطبق على البشرية جمعاء، فكل إنسان كان ذكرا أو أنثى فهو خليفة الله في الأرض، وهذا الإنسان يتحمل مسؤولية الإصلاح وعمارة الأرض والسمو في الأخلاق والقيم، ولكن اشتهر عند بعض فقهاء المسلمين وصف الخلافة على القائد الرباني، وذلك استنادا إلى قول الله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ص/ 26، وطبعا هذا التفسير هو اجتهاد من الفقهاء وليس أصلا من أصول الدين أو فروعه، كما أن الآية تحتمل معنى آخر يتمثل في تذكير النبي داود -عليه السلام- بأنه إنسان يتوجب عليه الإصلاح وتحمل الأمانة والمسؤولية لكونه نبيا.

أما الإمامة فقد عرفها فقهاء المسلمين بالانقياد خلف إنسان، والاقتداء بقوله وفعله، وبهذا التعريف يكون معنى "الإمامة": القدوة الحسنة، وهذا ما تؤكده آيات عديدة في القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) يس/ 12، وفي قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما" البقرة/ 124، كما تأتي "الإمامة" بمعنى القدوة السيئة أيضا كما في قوله عزّ وجل (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) القصص/ 41، وعند بعض الفقهاء فإن مفهوم الإمامة لا يختلف عن مفهوم الخلافة، إذ يطلق أيضا على القادة الربانيين.

ومما سبق، يتضح أن مفهومي "الخليفة" و"الإمام" لهما معان أخلاقية سامية في الإسلام، فكل إنسان -ذكرا أو أنثى- هو خليفة الله في الأرض، مكلف بالإصلاح وعمارة الأرض بالخير والعمل والإنتاج، والإنسان كذلك يكون إماما بأخلاقه الحسنة وأعماله الخيرة للإنسانية، وهذه هي المفاهيم الأساسية في الإسلام، أما المعاني الأخرى التي وردت في كتب الفقه ما هي إلا اجتهادات بشرية كمحاولة لتنظيم إدارة الناس آنذاك.

ولهذا استخدمت التنظيمات الإرهابية مفهومي الخليفة والإمام وإطلاقهما على قادتها لإقناع السذج من أتباعها وإضفاء الشرعية الدينية على أعمالها الإجرامية، لإدراكهم بالمفهوم السائد عند المسلمين بأنهم قادة ربانيون يخلفون النبي -صلى الله عليه وسلم- في حكم الناس، حيث استطاع الإرهابيون بهذا المفهوم إلغاء إنسانية أتباعهم، ورؤية حقارة أنفسهم أمام قادة التنظيم، فهم نكرة أمام هذا القائد خليفة رسول الله، فجعلوهم بذلك كقطيع الأغنام.

فعلى سبيل المثال استغل التنظيم الإرهابي المجرم "داعش" الصورة النمطية المطبوعة في أذهان المجتمعات الإسلامية عن الخلفاء الراشدين والصحابة وكيف كانوا يقودون الجيوش الإسلامية آنذاك، وبعد عملية غسل الدماغ ينظر الأغبياء السذج من أتباع التنظيم إلى قادة التنظيم وكأنهم الخلفاء الراشدون!

ولا ننسى أيضا الإرهاب الإيراني الذي يستغل مفهوم الإمامة للترويج بنظرية "ولاية الفقيه" ويخدع السذج بالقول بأنه نظام إسلامي يؤكد أن الحاكمية لله، وأن الطاعة والتسليم هما للحاكم (الولي)، وبشكل غير مباشر يوحي هذا النظام لأتباعه بأنه نظام معصوم حتى ينظر الأتباع إلى قادته كالأئمة المعصومين.

ونتيجة لما سبق فقد المسلمون إنسانيتهم ونسوا أنهم هم الخلفاء والأئمة الحقيقيون بأخلاقهم وعملهم الصالح.. وهذا ما جناه الإسلام السياسي على الناس!