يتغول الشيخ في الأحداث الدرامية في زمن مضى، ليُسقط على تلك الدراما السوداوية مبادئ النضوج والترقي إلى سمات المضحين من أجل الأمم والشعوب، فيربط ذلك المشاهد البسيط بثورات قد حولت الدول الآمنة والمستقرة إلى مستنقعات للدماء يتغلغل فيها حكم الميليشيات والعصابات العسكرية. فإذا ما جاءت لحظة الحقيقة والاعتراف لبيان أن ما قرره وعمقه أحد رموز التكفير وتجهيل المجتمعات ورفع السلاح ضد الدول المسلمة وغيرها، أنه هو السبب الحقيقي في الانحرافات الفكرية التي نعيشها في زمننا وواقعنا المعاصر فإذا هذا الشيخ يُسقط عليه أدوات الاجتهاد والمجتهدين، ويدخله في عمق مسألة التصويب والتخطئة، وجعل فكره ومساره موازياً ومعادلاً لذلك الاختلاف الفقهي في الأحكام والمسائل العملية!

فقد قرر الدكتور يوسف القرضاوي في مراجعاته أن سيد قطب قد انتهج فكر تكفير المجتمعات والتكفير بالجملة وأن ما على الأرض من بشر قد عادوا إلى الجاهلية الأولى، وأنه مر بعدة مراحل تطور خلالها من مرحلة الأدب والنقد ثم مرحلة الدعوة الإسلامية ثم المرحلة الثالثة الأخطر في تاريخ البشرية في عالمنا المعاصر وهي مرحلة الثورة الإسلامية، التي أفرز فيها سيد قطب فكراً يحمل في طياته تكفير المجتمعات وتجهيلها وعدم دخولها أصلاً في دين التوحيد، حيث إنها تناقضت مع المسلمات الأولية لدين الإسلام، ويقرر يوسف القرضاوي أن (أخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب هو ركونه إلى فكرة التكفير والتوسع فيها، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة من الظلال -يعني في ظلال القرآن- ومما أفرغه في كتابه "معالم في الطريق" أن المجتمعات كلها أصبحت جاهلية، وهو لا يقصد بـ"الجاهلية" جاهلية العمل والسلوك فقط بل "جاهلية العقيدة"، إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترض بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى).

ثم يُقرر أن سيد قطب جعل مجتمعاتنا مثل مجتمع مكة في عهد الرسالة، لذا فإنه يجب عرض التوحيد والعقيدة على البشرية وليس عرض النظام الإسلامي لأن هذا النظام ينتفع به المؤمنون أما من لا يؤمن به فلا ينتفع به، ثم يُقرر القرضاوي أن سيد قطب كان مجتهداً ومخلصاً فيما ذهب إليه من آراء وما قاله من مقولات: (وأنه كان معذوراً ومأجوراً فيما قرره وسطره قلمه ما دام أن الإسلام مرجعه والإسلام منطلقه، والإسلام هدفه)!! علماً أن أقوال سيد قطب كانت المعين لجل الجماعات التكفيرية التي تفضل التخطيط بهدوء وصمت وسرية، وكذلك الجماعات الجهادية المعاصرة المصرحة بأقوالها، وكذلك كل الأفراد المجاهرين بالتكفير والمصرحين بأقوالهم، وأولئك الذين يضمرون التكفير والبراءة من الأنظمة ومؤسساتها وعلمائها، ويكتمون أقوالهم ومذاهبهم، ويؤسسون أقوالهم ومذاهبهم على ما طرحه وقرره وأصله سيد قطب في كتبه، وبالأخص في مرحلته الثالثة والأخيرة التي مر بها وهي مرحلة الثورة الإسلامية.

ولما كرر ما سطره القرضاوي في مراجعاته ونشرها على عدد من الفضائيات، انقدحت في ذهني فكرة مدى اعتبار ما قرره سيد قطب من اجتهادات وآراء؛ خطرا حقيقيا أنتج جيلاً من العقول المتمردة والمتوحشة، وهل ما قرره من أقوال يندرج في نظرية التصويب والتخطئة التي أصلها علماء الأصول والتقعيد الفقهي، فلقد أمضيتُ أكثر من 3 عقود في تتبع مسائل الخلاف والاختلاف سواء في مسائل الأصول والفقه والتفسير وكذلك مسائل الحديث وعلومه، وكذلك تتبع كل ما تم تأليفه من كتب معاصرة في أسباب الخلاف في العلوم الشرعية وغيرها فاتضح لي أن كل خلاف يمكن احتماله وتبريره وتسويغه، وذلك بأن الكل والأغلب من علماء التأصيل والتقعيد الفقهي والأصولي متفقون على أن كل مجتهد مصيب في اجتهاده وعدم تأثيمه إذا ما كان اجتهاده نظرياً يكون في مسائل نظرية أو عملية في العبادات أو المعاملات، مما لا يكون له تأثير ضار على الأفراد أو الممتلكات، ولا ينتج عن تلك الاجتهادات والأقوال قتل أو تدمير للأفراد أو المجتمعات، بل إن الأصوليين والفقهاء استعملوا هذه القاعدة عدة استعمالات وفهموها على عدة صور من نفي الإثم والعذر والتخيير والتصويب للمجتهد وهذا متقرر في كتب الأصول، إلا أن هذا الإطلاق لهذه القاعدة لا يمكن -من حيث التصور العقلي ولا من حيث الفهم الشرعي لأحكام ومقاصد الإسلام- أن يدخل من ضمن أفرادها أي مجتهد نتج عن اجتهاده القتل والتكفير للأفراد والأنظمة والمجتمعات، ولا يمكن أن يتم إدخال اجتهادات الكاتب سيد قطب من ضمن تلك القاعدة. ولا يمكن القول بأنه كان مجتهداً وإنه كان معذوراً فيما توصل إليه  من فهوم لظواهر نصوص القرآن، وذلك لأن الوقائع والأحداث المعاصرة من قتل وإرهاب واستباحة الدماء للدولة ومؤسساتها وجيوشها وقواتها الأمنية، كانت الأثر المباشر لتبني أقوال وفهوم سيد قطب وأفكاره، وإن كل من يهتم بسير وتواريخ قيادات الجماعات الجهادية مثل القاعدة وداعش وتنظيم النصرة وغيرها يجدهم غالبا ما يعتقدون بمنهج سيد قطب، لذا فإن اجتهادات كل من يكفر ويجهل المجتمعات باعتبارها مجتمعات جاهلية، وبأن المسلمين لم يفقهوا التوحيد ولم يفهموا مقاصده وأركانه فإن ذلك الاجتهاد ليس اجتهاداً مقبولاً، ولا يعذر من تبنى تلك الأقوال بل إنه يأثم أشد الإثم لما أنتجه ذلك الاجتهاد من قتل وعنف وتكفير.