شاهدت الفيديو الذي تم نشره لتنفيذ هجوم كنيسة نورماندي، وقد روت الراهبة الفرنسية، دانييل، الناجية من الهجوم الذي استهدف كنيسة في فرنسا، وتبناه تنظيم الدولة، تفاصيل ما جرى في داخل الكنيسة. وقالت دانييل بحسب "سي إن إن" (إن المهاجمين تحدثا باللغة العربية، وصورا نفسيهما خلال العملية، وأجبرا القسيس على الجثوم على ركبتيه، ووضعا السكين على عنقه في مذبح الكنيسة، وسط أصوات الصراخ المتعالية، ونحر المهاجمان القسيس البالغ من العمر 86 عاما في الكنسية).

كنت أرى في عينيهما ذلك الإحساس الذي يتضمن الاندفاع القوي اليقيني لنصرة الدين بشتى الطرق، ويحتوي ذلك الحماس والاندفاع على الانصياع التام لما يتم تسويقه من نصوص دينية على أنها قطعية لا ظنية فيها، ورأيت فيهما ذلك الانفصام الذي ترسخه الصحوة الدينية، وتعزز فيه حب الاعتزال والمفاصلة للمجتمعات غير المهتدية وغير الملتزمة بشرع الله تعالى، ويتضح من خلال ألفاظ المبايعة أن هذين الشابين يعتقدان اعتقادا حازما يقينيا أنهما ينتميان للدولة الإسلامية الحقيقية، والتي تمثل الإسلام وأنه لا شرعية ولا مشروعية إلا لتلك الدولة المسماة دولة الخلافة الإسلامية، وأن أبا بكر البغدادي هو الإمام الحق المسلم الذي لا يوجد خليفة ولا إمام مسلم على وجه الأرض إلا هو، وهذا يتضح من خلال ألفاظ المبايعة التي كان يقرؤها أحدهما، وأنهما لن ينزعا يد الطاعة ولن يخرجا على هذا الإمام ولا على دولته إلا إذا رأيا كفرا بواحا عندهما فيه من الله برهان.

إن مظاهر الفكر البسيط التي يحملانها هي التي جعلتهما يصلان إلى مرحلة التنفيذ والتطبيق لبعض القواعد الشرعية المشاعة، وأعني بالفكر البسيط أنهما لم يكونا طالبي علم، ولم يبحثا في كتب أهل العلم، ولم تتنوع قراءتهما واطلاعهما في غير الكتب الموجهة لفكر الخلافة الإسلامية. شعرت ببساطتهما وهما في حالة عدم الخوف والاطمئنان كيف أنهما يبوحان بما في صدريهما وما في ضميرهما بأنهما يمثلان دين الصحابة، وأنهما على طريق رجال محمد صلى الله عليهم وسلم، تلك الحالة الشعورية التي كان فيها ذانك الشابان هي حالة متكررة منذ تأسيس الصحوة الإسلامية لدى الإخوان المسلمين في مصر ثم أزمة 1965، مع سيد قطب ثم تأسيس جماعة شكري (التكفير والهجرة) ثم جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية وحركة الإخوان، ثم احتلال الحرم وبداية الجهاد الأفغاني. هي حالة شعورية يعيشها كل شاب متدين وملتزم، فيتم إسقاط فكر التمرد وربطه بفكرة الخلافة الإسلامية وعودة دين الإسلام ليحكم العالم كما حكمتها الدول الإسلامية من قبل، هذه الفكرة نجدها يوميا لدى علماء وطلاب علم ومحامين ومهندسين وأطباء يحملون التدين بطريقة الالتزام الصحوي، وهو الأغلب الأعم في مجتمعاتنا. فيصور إليه أنه حامل راية علم اليقين بين جنباته وفي داخل أعماقه، وأن عقله قد بلغ أقصى قطعيات اليقين وحط رحاله عند تلك الجبال الراسخات باليقينيات، فيبقى متأملا له ولعقله ولروحه المتعالية على الآخرين، فلا يرى إلا حقائقه القطعية التي لا تشوبها شائبة، ولا يقبل التشكيك بتلك الحقائق القطعية. ذلك أن ما يحيط به من فكر أحادي قد رسخ تلك الأفكار والأحكام، فقد يخرج من الإسلام بمجرد التخلي والتشكيك أو دخول الظن أو الاحتمال والنسبية إلى تلك الحقائق القطعية، وهذه هي الإشكالية الحقيقية التي يتسم بها الفكر المتطرف الجهادي التكفيري منذ نشأة بداية فكرة مغالبة الحاكم والخروج على السلطة وتغيير المجتمعات عن طريق تغيير الحكومات، وهذه الإشكالية لم يتم التعامل معها بقدر كبير من الاهتمام سواء في الإعلام أو في البرامج التي تحاول محاربة الفكر الإرهابي وكذلك الرسائل العلمية الأكاديمية، ولم تعط هذه الإشكالية حقها من الدراسة والبحث والتحقيق، بل إن كثيرا من الأطروحات العلمية قد تتفق مع تلك الحقائق اليقينية والمعارف القطعية التي يطرحها الفكر المتطرف الجهادي.

تلك المسائل والأحكام يظن معتنقوها أنها تتسم بالحقائق القطعية والمعارف المترسخة والتي لا يجوز أن يتم تفكيكها وإسقاط الاحتمال والشك عليها وجعلها تقبل الاختلاف والتأويل وتعدد الفهوم حولها، بل إن أي تأويل يتخللها قد ينافي أصل الإسلام والإيمان!

لا شك أن فكر التأويل وقبول الاختلاف قد تحقق عبر العصور لعلماء مسلمين، ومن ذلك ما قرره الإمام الذهبي: (رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة).

هذا الرجوع الحتمي هو العلامة الفارقة والحقيقية لفهم مقاصد وحقائق الإسلام، وما لم يتم الرجوع عن التكفير بفكر التأويل والاختلاف وقبوله وجعله مقصدا وأساسا لمراجعاتنا فإننا لن نتمكن من كسر تلك الصخور الجامدة من اليقينيات والقطعيات المتوهمة.