في عام 1930 وفي خضم الكساد الكبير، عندما كان العالم يعاني من أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل، خرج جون ماينارد كينز، عالم اقتصاد وأحد مساهمي الاقتصاد المعاصر، بمقاله المستقبلي والمتفائل "الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا" حيث قام بالتنبؤ بما قد يحدث بعد 100عام. وقال إنه بحلول عام 2030 سترتفع مستويات المعيشة في العالم ما بين 4-8 أضعاف متطلبات الحياة، وقد توقع بأن ساعات العمل الأسبوعية ستقل لتصبح 3 ساعات في اليوم و15 ساعة في الأسبوع وبمدخولات عالية.

عالم أحفاد كينز الذي تحدث عنه هو عالمنا الحالي، حيث علل كينز أن في زمننا ما سيحل محل الأيدي العاملة هو اكتشاف وتطور وسائل إنتاج مقتصدة وفعالة تقوم بالأعمال المعقدة. وبعد مرور 85 سنة ومع اقترابنا من عام 2030 فعلا تضاعفت متطلبات الحياة، ولكن متوسط ساعات العمل ظل على 40 ساعة أسبوعيا كما كان عليه في السبعينات، وقد فسّر بعض الباحثين سبب ثبات ساعات العمل بأنه يعود إلى العلاقة الطردية الملاحظة بين التطورات التقنية ومتطلبات الحياة المتزايدة. حيث إن الإنسان أصبح يستهلك بإفراط خدمات ومنتجات غير أساسية يلقبها البعض بالترفيه المزيف والاستهلاك غير المسؤول.

إن قلّت ساعات العمل أم زادت، الترفيه لا يجب أن يكون ترفا بل ضرورة. ولكن ما هو الترفيه؟ يعرّف الترفيه بأنه وسيلة للمرح ناتجة عن أنشطة ترويحية نمارسها في أوقات فراغنا. والترفيه له نوعان: إمّا أن يكون تجربة شخصية ممتعة نخوضها كالقراءة والسفر والبستنة ومشاهدة التلفاز وممارسة الرياضة والهوايات، أو يكون تجارة في هذا المجال كشركات الإنتاج أو صناعة الألعاب وغيرها. وللترفيه أوجه عديدة منها المفيد ومنها الضار، الصحي وغير الصحي. ولقد وصف باحثو الاقتصاد الاجتماعي حالة الترفيه الحالية بأنها مزيفة، حيث إن الحالة القائمة للترفيه بكل أشكاله قد خسرت معناها الحقيقي، من النشاط العفوي للاستهلاك السلبي.

أصبح العديد يعملون باستمرار بغرض الاستهلاك والترفيه المزيف ويهملون حاجتهم الأساسية للترفيه الحقيقي. اليوم نعيش بين أكثر المجتمعات ثراء على مر تاريخ البشرية، وبالرغم من ذلك فشلنا في تحديد مغزى الثراء، ألا وهو الاستمتاع. يقول البعض إن السبب الذي يدفع العديد منا للعمل لساعات طويلة ليس لتحقيق الترفيه بل لعدم الوقوع في الملل، وذلك يرجع إلى أننا لا نعرف ما هو الترفيه الحقيقي. إن الترفيه استثمار فعّال يجب استغلاله بصورة إيجابية في أوقات فراغنا لنجني ثماره. وإذا عدنا إلى الحضارات القديمة، كاليونان والروم، مسقط رأس الترفيه، فإن مفهوم الترفيه في زمنهم لم يقتصر فقط على أوقات الفراغ، بل كان نشاطا أساسيا لا بد من ممارسته وكان له وقت مخصص. بل إن البرامج الترفيهية في بعض الأحيان تكون مجانية كما في ساحة الكولوسيام في روما القديمة، حيث يستطيع الجميع حضور المسرحيات الدرامية والمبارزات الرومانية وغيرها من الأنشطة الترفيهية.

منذ سنوات قريبة خُصصت منظمات غير ربحية عالمية وجهات حكومية للسعي إلى اكتشاف طرق ترفيهية إيجابية، تشجع تطبيقها لتكون بمثابة قوة تدفع الإنسان للنمو والتنمية والتطور، لما لذلك من أهمية كبيرة في رفع جودة الحياة وتحسين الإنتاجية. وحاليا انتشرت ثقافة إيجابية في المملكة وهي تصميم غرف للألعاب والترفيه في مكاتب الشركات لخلق بيئة عمل مريحة وممتعة.

إن تطبيق هذه الإستراتيجية في قطاع الأعمال يعكس فاعليتها على الإنتاجية، لذا يجب علينا أن نعيد النظر في اختيار الترفيه المثمر والحقيقي، وألا نهمل هذا الجانب الأساسي في الحياة العملية والشخصية لما له من أثر كبير على الإنتاجية. وآمل من هيئة الترفيه، التي أنشئت بعد إقرار رؤية المملكة 2030، تطبيق آليات تستهدف سلوكيات المجتمع تجاه الترفيه، وإنشاء برامج تعيد تعريف الترفيه وتشيّد على مفهوم الترفيه الإيجابي والاستهلاك المسؤول والإنتاجية.