شتان بين وفد السعودية الذي شارك في حرب عام 1948 دفاعا عن الحق العربي في فلسطين، والوفد السعودي الذي شارك في حرب عام 1973 مقدما دماءه إلى جانب الدماء العربية الزكية في خندق معركة الكرامة العربية، ووفد المغامرين الذي زار دولة الاحتلال الإسرائيلي قبل أيام ماداً يده إلى الأيدي السوداء التي تقطر منها دماؤنا، الأيدي التي هدمت منازل إخوتنا في فلسطين وشردتهم في الأرض في مشهد لجوء حزين. كان من المفترض على هؤلاء الذين زاروا دولة الاحتلال بقيادة الجنرال أنور عشقي أن يستحضروه.

ومع أن المملكة تبرأت من هذه الوصمة، وصرحت رسمياً بأن الجنرال السابق لا يمثل إلا نفسه، إلا أنه يؤلم النفس أن تأتي الأقلام الحاقدة في المنطقة لتسوق للأمر على نحو بالغ الإساءة لبلادنا، متعامين عن التبرؤ الرسمي من التصرف الشخصي غير الرسمي وغير المحسوب بالطبع، محاولين إظهار الأمر كما لو كان بمباركة المملكة، وما نعلمه جميعاً علم اليقين أن هذا الوفد لا يمثل سوى نفسه، وحتى دون انتظار التصريح الرسمي، لكن الذي لم نكن نتوقعه أبداً أن يأتي سعودي يفترض أنه شخص مسؤول، وله تاريخ في الخدمة الوطنية ليضع بلاده في هذا الموقف، ويسمح لنابحي الأرض أن تتجرأ أقلامهم على بلادنا، ويبثوا سمومهم في وسائل الإعلام هنا وهناك، محاولين النيل من مواقف بلادنا التاريخية الرافضة لوجود دولة الاحتلال، ووقفاتها -التي لا ينكرها إلا جاحد- إلى جانب الحق الفلسطيني، وإلى جانب إخوتنا في فلسطين.

هذه التصرفات غير محسوبة، فسمعة وطننا ومكانته لا تسمحان بمغامرات كهذه، أو نزوة ندفع فاتورتها جميعاً في خضم فوضى إعلامية عارمة وعدم وعي عربي عام، ولا سيما أن صوت الفوضى أعلى من صوت الحكمة، فمن يقول للملايين التي تناقلت أكذوبة أن السيد أنور عشقي زار أصدقاءه في دولة الاحتلال بمباركة من بلاده أن هذا محض افتراء.. وأنه أمر لا يتسق مع أي واقع أو معطى من المعطيات بالنسبة إلى بلد موقفها واضح منذ نشأة هذا السرطان السياسي المدعو إسرائيل في المنطقة.

خصومتنا مع الكيان الصفوي في إيران هي حالة عداء مع نظام حكم عنصري يدير مواقفه السياسية في المنطقة على نحو مرضي يدفع بالمنطقة إلى أتون حرب شاملة، نظام يسعى على مدار حكومات متعاقبة إلى ضرب أسافين الوقيعة وغرس أشواك الكراهية والعزلة بين العرقين العربي والفارسي، في الأخير تبقى هذه الخصومة مع نظام حكم رجعي، وقد تأتي الحلول والتسويات في أي لحظة سياسياً طبقاً للمتغيرات السياسية في المنطقة، أما معركتنا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي فمعركة مع كيان غاصب، معركة وجود، معركة مصير، معركة موعد حسمها الساعة يا جنرال، معركة مع كل مواطن في دولة الاحتلال، معركة مع قطعان مستوطنين واقعهم أقرب إلى واقع العصابات، فأي حوار ذهب الجنرال يبحث عنه مع عصابة محتلين غاصبين؟ كيف طاوعته يده أن يضعها في أيدي قتلة أطفال فلسطين؟ كيف طاوعته قدمه في أن يذهب إلى هؤلاء القتلة؟ هل يليق بشخص يحمل جنسية بلادنا أن يحاور رموز كيان مجرم يعاديه مثقفو المنطقة بمن فيهم مثقفو دولة مثل الشقيقة مصر التي تربطها بدولة الاحتلال معاهدة سلام، لكن هذا يبقى شأناً سياسياً يدار وفق مصالح وطنية للشقيقة مصر، أما المثقف المصري أو المواطن المصري فشأنه شأن المثقف والمواطن السعودي وغيره من المواطنين العرب، موقفهم وموقفنا جميعاً واضح من هؤلاء القتلة.

إن الأسئلة كثيرة وكل سؤال منها أشبه بجدار ترتطم به رؤوسنا بشأن هذه الخطوة. أسئلة حائرة حزينة، أسئلة صادمة لواقع صادم، أسئلة لا تجد منطقاً يجيب عن شيء من حيرتها في هذا الموقف البائس، هذه الوصمة التي نشعر إزاءها جميعاً بالأسى، أن يقال: زار سعودي دولة الاحتلال ووقف أمام العالم لتلتقط له الصور بين وجوه تخبئ لنا حقد الأزل والأبد معاً.. سامحك الله يا رجل.. لماذا فعلت ذلك؟ لا مجال للكلام عن الحريات الشخصية في مثل هذا المقام، فالعالم كله يتحدث عنك بصفتك سعودياً، وهو الحق المشترك الذي ينبغي أن نراعيه جميعاً ونحن نخوض مغامرات من هذا النوع.. فليست كل المغامرات سواء يا جنرال.