تصويت المملكة المتحدة يوم 23 يونيو للخروج من الاتحاد الأوروبي سبب صدمة عالمية، وبينما انشغل كثير من السعوديين بتداعيات هذا الأمر من جهة تأثيره على سعر الجنيه الإسترليني ربما لارتباطه بخطط السفر في الإجازات الصيفية أو بأسعار السلع المستوردة (انهار الجنيه بما يقارب 30% أمام الدولار)، إلا أن مسألة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي لها انعكاس على منطقتنا، وبالأخص على دول الخليج، فنحن في نهاية المطاف كدول مشكلة لمجلس التعاون الخليجي نقف أمام استحقاق مشابه لاستحقاق الاتحاد الأوروبي وهو ما يجعل التصويت البريطاني مؤثرا علينا من اتجاهين: الأول يتعلق بالارتدادات السياسية المباشرة لهذا القرار، والثاني: يتعلق بتبعات دخول الاتحاد الأوروبي مرحلة تفكك في الوقت الذي تسعى فيه دول الخليج نحو صيغة وحدة ارتأت في الاتحاد الأوروبي نموذجا.

تعود جذور أزمة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي إلى عام 2004 عندما قام الاتحاد بأكبر عملية توسع له بضم 10 دول تتضمن دول البلطيق وشرق أوروبا (A10 Countries)، وطبقا لأنظمة الاتحاد الأوروبي فإن حرية التنقل والعمل مكفولة لمواطني جميع الدول الأعضاء فيما بينهم، لكن خوفا من حدوث هجرات جماعية للعمل من الدول الأوروبية المنضمة حديثا تم وضع منظومة قيود على التنقل وصلت إلى 7 سنوات، وبحلول 2011 ارتأت الدول الأوروبية القديمة (EU15) الاستمرار في قيام كل دولة بفرض مجموعة من القيود بحسب حاجتها، لكن بريطانيا في حينها لم تضع أي قيود وهو ما سهل تدفق عدد كبير من العمالة من دول شرق أوروبا نحوها.

خلال فترة بسيطة انتقل حوالي مليون بولندي للعمل في بريطانيا، في فترة كان يبلغ فيها متوسط الدخل السنوي في بولندا حوالي 12 ألف دولار، بينما في بريطانيا 33 ألف دولار. هؤلاء البولنديون –على سبيل المثال- مثلوا عمالة رخيصة نافست البريطانيين في سوقهم، مما كان له تأثير سلبي على المواطن البريطاني متوسط ومتدني الدخل، وبينما استفادت الشركات وطبقة رجال الأعمال في لندن من تدفق هذه العمالة الرخيصة ومن اتفاقية التجارة الحرة مع أوروبا، كانت شريحة كبيرة من المواطنين البريطانيين تئن تحت وطأة الضغط الاقتصادي. لذلك كانت نتيجة التصويت كاشفة، فالغالبية في لندن صوتت للبقاء في الاتحاد (60%)، بينما الغالبية خارجها صوتت مع الخروج. وتعكس الحالة العمرية وضعا آخر، فنسبة الذين صوتوا للخروج ممن هم بين 18-24 سنة كانت حوالي 25%، بينما من صوت للخروج في الفئة العمرية أكبر من 65 سنة كانت حوالي 60%، وبالمقارنة مع مستوى التعليم كانت نسبة المصوتين للخروج من حملة الشهادة الثانوية 66% بينما من حملة الشهادات العليا 29%. نتائج البريكست عكست انقساما اجتماعيا واضحا بين من استفاد ومن لم يستفد.

بعد آخر مؤثر في نتيجة التصويت هو رفض البريطانيين لفكرة قيام الاتحاد الأوروبي ضمن إطار عمله كاتحاد بتنظيم أمور يرونها شأنا بريطانيا داخليا، ولها أمثلة متعددة، منها تحديد ساعات العمل بدلا من أن يكون ذلك تبعا لتنظيم السوق نفسه، وغيرها من الأمثلة المتعلقة بتنظيمات يرى المعترضون على الاتحاد الأوروبي أنها تنازل عن جزء من سيادة دولهم وحقهم في تحديد تشريعاتهم كسن التقاعد وهي قضية اختلفت حولها ألمانيا واليونان إبان الأزمة الأخيرة. من جهة أخرى، كان هناك البعد الأمني والتخوف من عمليات إرهابية يقف وراءها متسللون عبر آليات حرية التنقل بين دول الاتحاد.

لكن عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي ليست سهلة والتصويت ليس إلا بدايتها، فطبقا لأنظمة الاتحاد الأوروبي (المادة 50 من معاهدة لشبونة) فإنه يتوجب على بريطانيا التقدم بطلب رسمي للخروج من الاتحاد (وهو ما لم يتم حتى الآن) وقد يصوت البرلمان الأوروبي ضد الأمر مما يؤخر العملية، وإذا ما تمت الموافقة فإن مفاوضات الخروج ستأخذ ما يقارب السنتين، ومن المتوقع أن تعمل كل من ألمانيا وفرنسا على جعل عملية الخروج مؤلمة لإرسال رسالة قوية لبقية الأعضاء. وبعيدا عن الانعكاسات السلبية على الاقتصاد البريطاني (علما أن بريطانيا تستفيد من اتفاقية التجارة الحرة الأوروبية وتشكل صادراتها لأوروبا 45% ووارداتها من أوروبا 53%) فإن هذا الأمر سيعني على الصعيد الخارجي انشغال أوروبا بقضيتها هذه، وهي ذات أوجه متعددة، فإضافة إلى مفاوضات الخروج، فإن بريطانيا ستنشغل بالوصول إلى اتفاقيات تجارة حرة أخرى واحتمالية انفصال كل من أسكتلندا أو أيرلندا الشمالية لأجل البقاء في الاتحاد (لم تتجاوز نسبة التصويت للبقاء في الاتحاد حاجز 50% إلا في كل منهما إضافة إلى لندن فقط). ومن جهة أخرى، ستنشغل ألمانيا وفرنسا بمحاولة الحفاظ على الاتحاد في الوقت الذي تتعمق أزمتهما الاقتصادية وتتزايد فيه مطالبات مواطنين في دول أوروبية بالخروج من الاتحاد.

بوادر الانشغال الأوروبي بدأت مع تراجع فرنسا عن مبادرتها لإعادة إحياء ملف السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وقد تشهد الأيام تراجع الدور البريطاني في التحالف ضد الإهاب في المنطقة، وكذلك الميل نحو الموقف الروسي في سورية. وفي عموم الوضع قد لا يكون الدور الأوروبي رئيسا في المنطقة، لكنه يخلق على أقل تقدير موازنا جيدا، ومن شأن تراجعه أن تتعمق حدة المشاكل في المنطقة بشكل أكبر وخاصة في ظل تراجع السياسة الخارجية الأميركية. أيضا؛ فإن البريكست سيؤثر بشكل كبير على مسألة اللاجئين السوريين، ومن شأن ارتفاع موجة إعادتهم أن تعلق المنطقة بقضية إنسانية لا تملك دولها قدرة التعامل معها بكفاءة. واقتصاديا فإن تعمق الانكماش الذي يعاني منه الاتحاد الأوروبي متأثرا بخروج بريطانيا وبانخفاض الطلب في الصين والهند أيضا، سيعني احتمالية استمرار انخفاض الطلب العالمي على النفط، وبالتالي استمرار الأسعار على متوسطاتها، وهذا تأثير يصب على دول الخليج.

إن أكبر عبرة لمجلس التعاون الخليجي هو أن ينظر في أخطاء الاتحاد ويعمل على تلافيها، فعلى سبيل المثال ترى عمان ذات الموقف في عدم الرغبة بأن يكون لصيغة اتحاد خليجي القدرة على فرض تشريعات موحدة على الأعضاء، وهذا سبب كبير لتذبذب موقفها من المجلس. ثم إن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل فعلا ترغب دول الخليج في المضي بمسألة الاتحاد أم أن الصيغة الراهنة أكثر ملاءمة؟

إن الخروج البريطاني يظل في النهاية مدفوعا بأسباب اقتصادية بحتة، إذا كان التصويت البريطاني طريقة ديمقراطية للتعبير عن الرفض جراء الوضع الاقتصادي، فإن العالم العربي تختلف طريقة تعبيره، وهو ما يجعل المسألة الاقتصادية ملحة، لأن رغبات الشعوب في أوضاع اقتصادية جيدة لا تكون على المدى الطويل، وإنما ترغب في نتائج حاضرة.