أسدل الستار أخيراً على أولمبياد ريو 2016 بنجاح كبير للدولة المستضيفة، وللألعاب نفسها وللرياضيين. كان في هذه الدورة الكثير من كل شيء، من المظاهرات المحلية إلى السياسة وفضيحة روسيا مع المنشطات، إلى الأرقام القياسية الجديدة التي تم تسجيلها، والرياضيين الذين صنع بعضهم التاريخ، والبعض الآخر خرج منه بسبب سلوكيات غير مسؤولة. فمما لا شك فيه أن أولمبياد البرازيل كانت مميزة ومختلفة واستثنائية منذ حفل الافتتاح حتى إعلان النتيجة النهائية، والتي كانت بدورها مفاجأة! فليس غريباً أن تحل الولايات المتحدة الأميركية في المركز الأول، لكن المختلف هذه المرة أن الوصيف لم يكن سوى المملكة المتحدة، التي حققت للمرة الأولى في تاريخها 27 ميدالية ذهبية و23 فضية و17 برونزية (المجموع 67 ميدالية)، مما جعلها تدفع بالصين إلى المركز الثالث، وسط ذهول البريطانيين قبل الصينيين! فكيف استطاعت هذه الجزيرة الصغيرة بسكانها البالغ عددهم 65 مليوناً هزيمة بلد بحجم الصين بسكانها الذين يتجاوز عددهم المليار نسمة؟

لم يكن الأمر وليد الصدفة، خاصة بالرجوع إلى الوراء قليلاً، تحديداً إلى عشرين سنة خلت، إلى أولمبياد أتلانتا 1996 في الولايات المتحدة الأميركية. يومها خرجت بريطانيا العظمى بميدالية ذهبية يتيمة وبضع ميداليات أخرى فضية وبرونزية، مما يجعل المجموع ككل 15  ميدالية فقط، وحلت بريطانيا يومها في المركز الـ36 في جدول التصنيفات النهائي. وظل المسؤولون عن الرياضية في هذا البلد يفكرون ويخططون لتغيير هذه الأرقام المتواضعة. بل إن استضافة الألعاب الأولمبية في لندن 2012 كانت جزءاً من هذا التخطيط، وإن لم تكن النتائج المتحققة على الصعيد الرياضي يومها بعظمة ما تحقق بعدها بأربع سنوات في البرازيل.

يذكر البريطانيون عدة أسباب لهذا التحول والنجاح الكبير. فهناك الإنفاق المالي الكبير على الرياضات المختلفة وليس على رياضة واحدة ككرة القدم، سواء كان ذلك في الرياضات التي تتميز فيها الدولة تاريخياً كالسباحة والدراجات والتنس والتجديف أو الرياضات الأقل شهرة. لكن ذلك الإنفاق لم يكن غير مشروط، بل كان فيه ما يمكن اعتباره شدة أو قسوة أو حزماً. كان الدفع والدعم والإنفاق على رياضة ما مرتبطاً بالأداء، فحين يفشل الرياضيون في تحقيق أهداف مرضية في المسابقات والمحلية والدولية وفي أثناء الاستعدادات للأولمبياد، فإن هذا الدعم ينقطع حتى يتحسنوا. ولم تكن المحاسبة خاصة بالرياضيين، وإنما بعد كل إخفاق تتعرض الاتحادات الرياضية لكل لعبة لمحاسبة دقيقة، نتج عنها أحياناً فصل رؤساء هذه الاتحادات، واستبدالهم بمن يستطيع أن يحقق ما هو مأمول منه. كما أن لسياسة النفس الطويل دوراً، فبدلاً من وضع خطة فقط للأولمبياد المقبلة بعد أربع سنوات، يتم وضعها لثماني سنوات، وذلك يشمل الميزانيات والتدريبات والأهداف، فسياسة النفس القصير قد لا تكون مجدية لصنع التغيير الكبير والدائم.

وإضافة إلى الأمور المادية والإدارية فهناك الأمور المعنوية. فقد استفادوا من دور المشاهير أو "السوبرستارز"، لكن هؤلاء لم يكونوا مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن الأبطال الذين حققوا بالفعل نجاحات في بطولات سابقة وحصدوا الذهب والفضة والبرونز. فقد بات هؤلاء أيقونات يعرفهم الجميع ويظهرون بشكل متكرر على التلفاز وفي المناسبات العامة، بل ويزورون المدارس ليحمسوا الطلبة على صناعة الحلم الأوليمبي. وبالفعل فإن إحدى الصغيرات التي تأثرت بزيارة أحدهم قبل عشر سنوات في مدرستها شاركت كرياضية في أولمبياد ريو 2016!

كذلك تم العمل على إحياء الروح الوطنية بين الرياضيين، وهم تحدٍ كبير بالنسبة للمملكة المتحدة، التي تتكون من أربعة أقاليم كانت فيما سبق دول مستقلة لكل منها عاداتها ولغاتها. خاصة أنهم يلعبون في رياضات أخرى مثل كرة القدم بشكل منفصل وليس كدولة واحدة. فتم التركيز هنا على بناء روح الفريق، وأن نجاح كل واحد منهم في رياضته وتحقيق الذهب هما اللذان سيرفعان الفريق ككل إلى منصة التتويج، فالتصنيف النهائي لفريق وليس للعبة منفردة. والإعلام كان مسانداً بشكل كبير فلا تسمع إلا الحديث عن فريق GB. ومن الأساليب التي تم اتباعها لجعل الرياضي يحس بقيمة شعار الفريق الذي يرتديه، تم سحب الملابس أو عدة الرياضة التي تحمل هذا الشعار منهم بعد الأولمبياد السابقة وإعطاؤها لهم قبل بدء الحالية، لإيصال فكرة بأن هذه الأشياء قيمة بحيث لن ترتديها إلا مرة كل أربع سنوات.

هناك أمور أخرى قد تكون مرتبطة بالسياسة أكثر منها بالأولمبياد، ولكنها توضح كذلك كيف يمكن أن تحقق كبلد مردوداً إيجابياً من خلال استضافتك للمهاجرين واللاجئين وإعطاء بعضهم الجنسية واحتضان الموهوبين منهم ومنحهم فرصاً متساوية مع أبناء البلد. العداء محمد مختار فرح (33 عاماً)، خطف الأنظار في ريو 2016، ليس لأنه حقق ميداليتين ذهبيتين في سباقي 5000م و10000م للرجال فقط، ولكن لأنه سقط في بداية أحد السباقين، ولكنه نجح في النهوض وإكمال السباق والفوز بالمركز الأول! هذا الرجل من أصل صومالي، ولد في مقديشو، ونشأ في جيبوتي، قبل أن يصل إلى بريطانيا في عمر الثامنة وهو لا يجيد كلمة إنجليزية واحدة آنذاك. وبريطانيا التي منحته جنسيتها ورعايتها الطبية والتعليمية والرياضية جنت ما زرعت، فقد بات اليوم أكثر رياضي بريطاني نجاحاً في تحقيق الذهب، فقد حقق الميداليتين ذاتهما عام 2012 في لندن ودافع عن لقبه في ريو 2016. وهو إنجاز عالمي وتاريخي، فلم يسبقه في رياضته سوى عداء واحد من فنلندا اسمه لاسي فيرن، وعمره اليوم 67 سنة، أي أنه مضى وقت طويل حتى استطاع رياضي تكرار إنجازه.

وإذا ذهبنا إلى المستوى الشعبي لخلق هذا المجتمع الذي يمارس الرياضة ويدعمها، نجد أن هناك على مستوى الأحياء في كافة المدن والقرى البريطانية نوادٍ رياضية حكومية شبه مجانية، لتمكين الجميع من ممارسة الرياضة. وفي بعض المدن فإن المسابح تخصص ساعة أو أكثر أسبوعياً للنساء فقط، بحيث تتمكن المرأة المحجبة مثلاً من الاستمتاع مثل الآخرين مع مراعاة قيمها. النجاح ليس وليد الصدفة، وشعوب دول معينة ليسوا بأفضل من أخرى لجهة التكوين الجسدي، أو القدرة على تحقيق النتائج المذهلة. وإنما يعود الأمر إلى الأسباب الرئيسية لنجاح أي مشروع: تخطيط سليم، وإدارة واعية، ودعم مادي مدروس، وشفافية ومحاسبة، وبناء روح الفريق، واستقطاب المواهب، والزخم الإعلامي والقوة الناعمة. فإذا ما كان العرب يرغبون في أن يتجاوزوا مرحلة المشاركة لرفع العتب، فليسوا مضطرين لشراء اللاعبين واللاعبات، وإنما عليهم البدء بأخذ الرياضة بجدية، ابتداء من ملعب المدرسة وحصة التربية البدنية، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، لكن التخطيط والعمل يصنعان المعجزات.