على الرغم من أن مشاركات العرب في الألعاب الأولمبية كانت محدودة، ولم تلفت الأنظار كثيرا في السنوات الماضية، إلا أن مشاركتهم هذه السنة لم تسجل حضوراً فقط، بل مواقف ودروسا وأكثر من حكاية، تستحق أن نتوقف عندها قليلاً. ففي الوقت الذي زاد فيه تمثيل النساء العرب في هذه الدورة، تجاهل المتابع في بعض الدول، واحدة من أهم أهداف الألعاب الأولمبية النبيلة، والتي تدعو لتوحد العالم وتناسي الضغائن والأحقاد، وركز تعليقاته بكل سطحية على ما كانت ترتديه المشاركات العربيات فقط، في نظرة تكشف عن حجم الدونية والانتقائية البغيضة، التي من الممكن أن تحويها عقلية أي إنسان لديه خلل. مع أن مشاركة النساء العربيات، كان لها الفضل في دخول دولهن لدورة الألعاب. فحين تبدع أي لاعبة من دولة غربية، يكون التعليق مليئا بالإشادة والتشجيع على براعة أدائها، وحين تتنافس أي لاعبة عربية، لا يُرى من أدائها سوى ما ترتديه. والغريب أن الفريق السعودي، حين بذل كل ما في وسعه، استاء البعض من احتلالهم المراتب الأخيرة، مع العلم بأنه لا توجد من الأساس رياضة نسائية في المملكة، ولا تدريبات جادة أو احترافية لألعاب القوى، ذلك التدريب الذي من المفترض أن يؤهل اللاعب للمنافسات الدولية.

والموقف الجميل هذه السنة، مشاركة فريق للاجئين لأول مرة في تاريخ الألعاب الأولمبية، في رسالة تبعث الأمل في نفوس ضحايا الحروب حول العالم، بأنه على الرغم من الركام والحصار أو المنع، أحيانا تكون الرياضة، هي السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة. وتكفي مشاركة السباحة السورية "يسرى مارديني" فخراً، أن تقدم للعالم المعنى الحقيقي لأن تكون بطلة عالمية. حين فازت في سباق مع مرتبة الشرف، أبقت فيه على حياة الآخرين، حين سبحت لساعات في البحر مع شقيقتها، وهما تدفعان قارباً مطاطيا، كان على متنه أكثر من 20 روحا تتنفس، إلى أن أوصلتا القارب إلى جزيرة ليزبوس اليونانية، وهذه بحد ذاتها بطولة عالمية لا تكفيها كل ميداليات الأولمبياد.

وعلى الرغم من عدم مشاركة الكويت، سجل اللاعب الكويتي فهيد الديحاني، حضورا لافتاً حين أحرز الميدالية الذهبية العربية الأولى في الرماية، في موقف أكثر ما يمكن أن يقال عنه إن إرادة وعزيمة الأبطال لا تقبل الرضوخ للعقبات.

ومع أن الاتحاد الدولي لكرة الطائرة، كان قد فرض احترام كل الثقافات والعادات في البلدان المشاركة، عندما سمح قبل أولمبياد لندن للنساء المحجبات من الدول المختلفة بالمشاركة بالملابس التي تمثل ثقافتهن إلا أن الانتقادات التي طالت لاعبات مصر للكرة الشاطئية، لم تتوقف حتى بعد انتهاء المباراة بفوز ألمانيا. فصممت لاعبات الفريق الهولندي بالظهور في مباراة تخصهن، بنفس "الزي الكامل الذي ارتدته لاعبات مصر، تضامنا معهن، ليثبتن للعالم أن المرأة ليست عدوة المرأة، بل تنتصر لها في كثير من المواقف، كما لقن ذلك الموقف الصحافة الغربية درساً في احترام ثقافات وعادات الشعوب.

وربما ينبغي ألا نستغرب كثيرا، أمام ذلك الهجوم الإعلامي على فريق مصر، حين نعلم بحكاية بطلة البرازيل للجودو رفائيلا سيلفا، صاحبة أول ذهبية للبرازيل في الأولمبياد، والتي استقبلت فوزها ببكاء مرير، حين تذكرت فشلها واستبعادها في أولمبياد لندن بسبب حركة غير قانونية، وكيف تعرضت بعده من مجتمعها لسيل من الإساءات عبر الإنترنت وصفت فيها بالقردة، مما أحبطها ودفعها إلى التفكير في الاستسلام والتوقف عن اللعب، ولكن أصدقاءها الأوفياء، كانوا وراء ثنيها عن عزمها بمساعدة من طبيب نفسي، فأقنعوها بالاستمرار فلم توقفها العنصرية، بل كانت الحافز الذي قادها إلى مزيد من التدريب والتألق. لذلك حين فازت بالميدالية الذهبية بكت، وتذكرت كل الذين أساؤوا إليها، وأثقلوا من معاناة تلك الهزيمة.

ولا يقتصر الهدف الأساسي من الألعاب الأولمبية على التنافس الرياضي فقط، بل يشتمل على أهداف أخرى، تعنى بترسيخ مبادئ التعايش بين شعوب العالم على الرغم من خلافاتها واختلافها. وهذا ما جسدته اللاعبتان الكوريتان من كوريا الشمالية والجنوبية، حين وقفتا أمام العالم بكل سعادة، لتلتقطا سيلفي تاريخيا، يبرهن على رفض الشعوب للاختلافات السياسية، والقدرة على التعايش خارج حدود الأوطان.

وربما تكون الحكاية الأكثر إثارة، حكاية السباحة الفلبينية (ياسمين الخالدي)، التي مثلت الفلبين منذ أولمبياد لندن، وحركت موجة من التساؤلات حول والدها السعودي، الذي بعد زواجه من والدتها بفترة ذهب ولم يعد. وكانت قد صرحت السفارة السعودية في مانيلا في ذلك الوقت بأنها لا تعلم شيئاً عنه.

وأجمل درس في النزاهة، سنتذكره دائماً، ذلك الدرس الذي قدمه لاعب التنس الأميركي "جاك سوك" للملايين، حين طلب من الحكم احتساب ضربة لصالح منافسه، وصمم على إعادة اللقطة ليثبت صحة كلامه، فذهل الحكم واستغرب منافسه، ولكن حين تمت إعادة اللقطة، دوّى تصفيق الجماهير كالرعد إعجابا بموقفه النزيه. وهذه هي الأخلاق السامية التي ينبغي أن تؤسس عليها الروح الرياضية. لتصحبنا معها في رحلة التنافس بشرف والتعايش مع الآخر خارج حدود الضغائن والأحقاد.