أصدرت وزارة الصحة تنظيمات جديدة بشأن علاج مصابي حوادث السيارات، بحيث تلتزم شركات التأمين بتكاليف علاج المصابين، الأمر الذي أدّى إلى عزم بعض الشركات على رفع أسعار التأمين، وردت وزارة الصحة على ذلك بالقول بأنه "لا يوجد مبرر لرفع أسعار التأمين، حيث إن جميع اشتراكات التأمين الحالية ضد الغير التي لدى المواطنين تغطي علاج مصابي الحوادث، وهي مدرجة في الوثيقة الموحدة الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي"، وبالتالي فإن الشركات ملزمة بتحمل كافة النفقات والمصاريف الطبية.

وبناء على ما سبق، أبدى العديد من المواطنين في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، مخاوفهم تجاه قرار وزارة الصحة الجديد، والمتمثلة في احتمالية نشوء نزاعات بين المستشفيات وشركات التأمين بالإضافة إلى طول الإجراءات الأمر الذي سوف ينعكس بالسلب على علاج المصابين والتأخر في علاجهم، إلا أن الوزارة حاولت طمأنة المواطنين بالقول بأولوية العلاج ومن ثم المطالبة بالنفقات الطبية، بالإضافة إلى علاج المصابين حتى وإن لم يكن لديهم تأمين.

وبالرغم من التصريحات المتعددة لوزارة الصحة بهذا الشأن، إلا أن الغموض لا يزال يكتنف القرار الجديد، فالوزارة تؤكد على أن الهدف منه هو "تقديم خدمة طبية أفضل وخيارات علاجية أوسع وتسهيل الخدمات الإسعافية في توصيل المصابين لأقرب مستشفى متخصص". والسؤال المطروح هنا: هل بالفعل قرار إلزام شركات التأمين بتحمل تكاليف علاج المصابين سوف يسهم في تقديم خدمات صحية أفضل؟ وكيف يكون ذلك؟

إن الإصابات الناجمة عن حوادث المرور أصبحت مشكلة تقض مضاجع الجهات الصحية نتيجة تزايدها بصورة مخيفة مع زيادة استخدام السيارات وعدم الالتزام وكثرة المخالفات وانخفاض الوعي المروري بشكل عام، وتشير إحدى الدراسات البحثية في المملكة العربية السعودية إلى زيادة عدد مصابي الحوادث، والتي تبلغ تقريبا (28.998) مصابا في السنة الواحدة، وبتكلفة إجمالية قدرها (3.469.332.750) ريالا، كما تم تقدير إجمالي التكاليف الشاملة لحوادث المرور بالمملكة لتشمل الوفيات والإصابات والإضرار بالممتلكات العامة إلى حوالي (61.5) مليار ريال في السنة الواحدة تقريبا.

وبالطبع فإن وزارة الصحة تتحمل النسبة الأكبر من إجمالي تكاليف الحوادث المرورية وتستهلك نسبة عالية من ميزانيتها السنوية، حيث إن علاج غالبية مصابي الحوادث يكون في المستشفيات الحكومية نظراً لارتفاع التكاليف، وشركات التأمين بجميع أنواعها لا تتحمل أية تكاليف، إذ لا يتم علاج المصابين في المستشفيات الخاصة، لذا قد يكون من أحد أسباب القرار الجديد للوزارة هو تخفيض تكاليف علاج المصابين.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن وزارة الصحة تهدف أيضاً من ذلك القرار إلى التطبيق التدريجي للتأمين الصحي على جميع المواطنين، ولهذا قد يكون من الطبيعي ارتفاع أسعار التأمين بشكل عام، لذا فإنه من المتوقع أن تصدر ضوابط جديدة للتأمين بكافة أنواعه في المملكة.

ومن الإشكالات التي سوف تواجه وزارة الصحة نتيجة لتطبيق ذلك القرار غياب تطبيق أصول وأساليب محاسبة التكاليف في النظام المحاسبي الحكومي المطبق في الوزارة، فمصطلح "محاسبة التكاليف" غائب تماماً في العمليات المالية في كافة المستشفيات الحكومية، والسؤال المطروح هنا: كيف تستطيع وزارة الصحة تحديد تكاليف علاج المصابين، والتي على أساسها سوف تتم محاسبة شركات التأمين؟.

ذكرت إحدى الصحف المحلية أن تكلفة المصاب الواحد (الحالة) تتراوح بين 3000 و5000 ريال يوميا للحالة الحرجة، و3000 ريال للعادية، و500 ريال في ثلاجة الموتى ليوم واحد، و1000 ريال لانتداب الطبيب والممرض... إلخ، وبالرغم من تحديد هذه التكاليف إلا أنها لا تحل مشكلة ارتفاع التكاليف في وزارة الصحة، ولا ترشيد الإنفاق ولا توضح مدى تأثيرها على تحسين الخدمات الصحية في ظل غياب مفهوم "محاسبة التكاليف" من الأساس، بل قد تزيد من مخاطر التلاعب بالأسعار، وزيادة سوء الخدمات الصحية المقدمة إلى المواطنين.

ولهذا فإن وزارة الصحة بحاجة إلى  تحديد مراكز للتكلفة ووحدات للقياس بناءً على أسس ومعايير علمية تعتمد بشكل مباشر على تحليل وتقييم البيئة الداخلية والخارجية للمستشفيات، وعلى ضوئها يمكن مراقبة التكاليف عند المنبع، حيث تنشأ المسؤولية عن هذه التكاليف، وبالتالي يمكن تصحيح الانحرافات إن وجدت وفي الوقت المناسب وتحديد المسؤولية بشكل مباشر، فضلاً عن إمكانية تحديد ما إذا كان هناك مبرر لزيادة التكلفة أم لا، بالإضافة إلى معرفة ما إذا كان هناك هدر مالي أو خلل في توزيع المخصصات المالية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك عدة طرق لقياس التكلفة تحدد على حسب حجم وطبيعة النشاط بالإضافة إلى عوامل أخرى، ولغرض التوضيح أطرح مثالا نموذجيا بسيطا يمكن من خلاله تحديد تكاليف الأنشطة الصحية، فعلى سبيل المثال يمكن تبويب وتصنيف مراكز التكاليف للأنشطة الصحية على النحو التالي:

* مراكز تكلفة للنشاط الرئيسي: (العلاج الطبي، الجراحة، العناية المركزة)، وتبوب أيضا هذه الأنشطة إلى أقسام متعددة، فمركز العلاج الطبي قد يقسم إلى أمراض عظام، باطنية... إلخ.

* مراكز تكلفة الخدمات المساعدة (التمريض، قسم الأشعة، المختبر، الصيدلية).

* مراكز تكلفة الخدمات الإدارية (السجلات الطبية، الصيانة والنظافة، إدارة شؤون المستشفى).

وكل مركز تكلفة يتكون من تكاليف مباشرة وغير مباشرة (ثابتة ومتغيرة)، وتشمل الأجور والرواتب والتقنيات، والمصاريف الأخرى (الكهرباء، الاتصالات، الصيانة... إلخ)، وهكذا، وعليه يتم تخصيص كل تكلفة وتوزيعها على الأقسام الأخرى حسب ارتباط التكلفة بالنشاط، والتي بدورها تخضع لطرق قياس وتطبيقات مختلفة تتضمنها معادلات رياضية لاحتساب نسب التكلفة.

وبهذه الطريقة يمكن تحديد تكلفة علاج المصاب الواحد، بطريقة علمية دقيقة وواضحة، وبالتالي إيجاد إدارة مالية فعالة في القطاع الصحي تعمل على استخدام الأموال العامة بكفاءة وفعالية أكثر، وعليه يمكن تطبيق التأمين الطبي بكل سهولة وبمخاطر أقل.