الحديث عن تطوير الأنظمة الصحية هو أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل على النطاق العالمي، لأنه ببساطة يتعامل مع أهم ما يملكه الإنسان: صحته وبالتالي حياته. والنظام الصحي الجيد هو أحد الأمور الجوهرية التي يتم بها قياس مدى تطور دولة ما، والتزام حكومتها بتوفير احتياجات سكانها الأساسية، وعلى رأسها دوما الصحة والتعليم. وحين أذكر سكانها، لا أفرق بين مواطن ومقيم فيها، فما دامت إقامته نظامية، وما دام يدفع الضرائب، أو رسوم هذه الإقامة، فلا أرى بأنه مقبول قانونيا أو إنسانيا أن يُحرم هو أو من يعول من هاتين الخدمتين الرئيسيتين اللتين هما بمثابة الماء والهواء.

بل إن الملف الصحي كثيرا ما أسهم في فوز ناخب ما أو سقوطه، ولعل برنامج الرئيس الأميركي باراك أوباما "أوباما كير"، والذي حاول من خلاله الحد من تغول الرأسمالية في هذا القطاع، حيث إن الوضع السائد في الولايات المتحدة، التي تعد من أكثر الدول تقدما في المجال الطبي، أن هذا العلاج متاح للأميركيين وغيرهم عبر التأمين الطبي، الذي هو في استطاعة الأغنياء دون الفقراء. فما فائدة أن تقيم في دولة لديها أحدث الأجهزة الطبية، وأنجع البرامج العلاجية، وأمهر الطواقم الطبية، وأفضل مراكز الأبحاث، ولكنك تحرم منها فقط لأنك لا تملك المال الكافي؟ وقد حورب الرئيس الأميركي كثيرا من قبل كل الأطراف المتنفذة والمستفيدة مثل شركات التأمين والأدوية والمستشفيات وغيرها.

والغريب أنه في حين حاول الرئيس الأميركي أن يستلهم النموذج الأوروبي، الذي رغم أن اقتصاده يقوم على الرأسمالية أيضا، لكنها رأسمالية اجتماعية وإنسانية، تأخذ بالاعتبار احتياجات الإنسان الأساسية، وتراعي الأغنياء كما الفقراء، فإن أصوات المتنفذين في بعض الدول الأوروبية تطالب بالخصخصة على الطريقة الأميركية، ومنها المملكة المتحدة التي لديها النظام الصحي الشهير (NHS)، الذي يوفر الرعاية الطبية بالمجان للمواطنين، ولكل من يقيم لمدة ستة أشهر فأكثر بشكل نظامي في البلد، بما في ذلك الطلبة الأجانب. ولسنوات طويلة ظل الطلبة السعوديون وعائلاتهم يستفيدون منه، إذ لم يكن لهم تأمين صحي من الملحقية حتى بضع سنوات خلت. وللأسف فإن هناك لدينا من يريد أن يفعل الشيء ذاته، وأن يحرم ملايين المواطنين السعوديين، بعد أن تم حرمان المقيمين، من الرعاية الصحية المجانية، عبر خصخصة القطاع الصحي، ويجادل هؤلاء بأنها الطريقة الوحيدة لتحسين هذا القطاع والنهوض به. ولو سمعهم الأصدقاء في الدول الإسكندنافية التي تقدم رعاية صحية بمعايير عالمية مذهلة بالمجان لتعجبوا كثيرا. صحيح أن الضرائب في الدول الإسكندنافية تعد عالية، إلا أننا لا نجد المرء هناك يتذمر منها، لأنه يعرف بالضبط كيف تُصرف، ولأنه يجد بالمقابل خدمات تعليمية وصحية هي الأفضل على مستوى العالم. كما يتحمل الأغنياء والمقتدرون مسؤولياتهم تجاه الفقراء واللاجئين وغيرهم ممن يستفيدون من الخدمة دون دفع الضريبة ضمن نظام متكامل جدير بالإعجاب. فالعقلية الأوروبية تتفهم بأن الحلقات الأضعف في المجتمع تستحق الرعاية والاهتمام والدعم، وأن العجز أو المرض أو الفقر ليس منقصة أو عيبا، وهي تختلف بذلك جذريا عن العقلية الأميركية التي يصرح الناس فيها علنا بعدم رغبتهم في دفع ضرائب عالية من أجل الفقراء، فهم ليسوا مسؤولين عنهم، وأن تكون فقيرا في أميركا – بلد الفرص- في نظرهم يعني بأنك إنسان فاشل وكسول، ولا تستحق دعما حكوميا، وإن تكرمت الحكومة وأعطتك يتم النظر لك كطفيلي يقتات على مجهود الآخرين.

نعود للنظام الصحي البريطاني، الذي لم يتغير بعد، والمثال الذي أرغب بذكره هنا هو لسائح سعودي شعر ببعض التعب، فتوجه إلى ما يعرف بالعيادة المفتوحة Walk in Centre)) حيث يمكن أن تحصل على موعد فوري لتقابل ممرضا متخصصا، فقامت الممرضة بأخذ القياسات اللازمة مثل الحرارة والضغط وغيرهما، وعندما لاحظت مشكلة في انتظام ضربات القلب، وبسبب سنه، قامت مباشرة بالاتصال بالإسعاف، لأنها أرادت أن تختصر عليه فترة الانتظار في الطوارئ، ومنعا لأية مخاطرة في صحته. وصل الطاقم المسعف في فترة وجيزة، فسلمتهم تقريرا سريعا عما قامت به، شكروها وقاموا بالمزيد من الإجراءات أثناء نقله، وبعد دقائق كان في مستشفى جامعي حكومي، وقام المسعفون بتسليم المريض إلى العاملين في الطوارئ، وسلموهم تقريرهم كذلك. تسلم هؤلاء المريض، قاموا بمراقبة ضربات قلبه، وتدرج العاملون الصحيون الذين تعاملوا معه ابتداء من ممرض وطبيب مقيم، وصولا إلى الاستشاري. وبعد أن تم اتخاذ الإجراء العلاجي المناسب، وضع تحت الملاحظة حتى استقرت حالته، بحمد الله ورعايته، وسُمح له بالخروج.

ما أثار إعجابي في هذه القصة عدة أمور:

1 -  لم يسأله أحد طوال هذه الفترة عن جنسيته أو جواز سفره، لم يقولوا "أجنبي" أو "مواطن"، كان هناك إنسان مريض يحاولون مساعدته.

2 - لم يطلبوا جنيها واحدا مقابل كل هذه الخدمات الصحية الراقية، فهذه الرعاية ضمن نظام صحي مجاني، وكونه سائحا وسعوديا لم يجعلهم يطمعوا فيه أو يرسلوا فاتورة إلى سفارة بلده.

3 - وجود بروتوكول واضح لكيفية إدارة الأمور، الممرضة لديها خبرة ومعرفة وفوق ذلك صلاحيات، وكذلك كل من المسعفين والأطباء، لا تشعر بأن الطبيب هو الحاكم بأمره والممرضة ليس لها من الأمر شيء.

4 - تخفيف الضغط عن المستشفيات، فللحالات البسيطة هناك هذه المراكز (Walk in Centre)، وبعدها هناك الحصول على موعد مع طبيب عام (GP) في العيادة المحلية الخاصة بكل حي أو عدة أحياء، والذي يقوم بدوره بتحويل المريض الذي تستدعي حالته ذلك إلى المستشفى. وهناك خدمات الطوارئ والإسعاف، ورعاية الحوامل، ورعاية الأم والمولود بعد الولادة من خلال الزيارات المنزلية، ومراكز رعاية الأطفال ومتابعة نموهم وتطعيماتهم، ورعاية المسنين، وذوي الاحتياجات الخاصة ودعم أسرهم. طبعا ليست كل هذه الخدمات مثالية، وستجد من يتشكى منها، ويعدد لك عيوبها، لكن ما يمكن التأكد منه أن الرعاية الصحية الأساسية متوفرة للإنسان أيا كان.

هذا المقال مهدي إلى: من يعتقدون بأنه ليس من واجبنا تقديم أية رعاية طبية مجانية لغير السعوديين حتى في الحالات الطارئة، أو الأمراض القاتلة، ولمن لا يشعرون بالخجل والعار من أن يرفض طوارئ مستشفى حكومي استقبال امرأة غير سعودية في حالة وضع، ولمن يعتقدون بأن الحل في التأمين الطبي الإلزامي، ولمن يريدون أن يسرقوا من المواطن نظام العلاج المجاني، تحت وعود زائفة بتقديم خدمة أفضل، وأخيرا لمن يعتقدون بأن النظام الطبي الناجح يقوم على أكتاف أمهر الأطباء المتخصصين فقط، مهملين تطوير وتدريب باقي العاملين المهمين في هذا المجال.