قد أفهم أهمية دراسة هذا الفن في العلوم السياسية والعسكرية، وتطبيقه لتحقيق أهداف معروفة عند المتخصصين، كالإشغال السياسي، والتحفيز العسكري، والتبرير الأمني، والتسويغ التعبوي، والاكتساب الفردي والمؤسسي من وراء هذه الصناعة للأعداء.

ولكن لا يمكنني أن أقنع بوجوده -ولو بغير قصد- في الممارسات الدعوية والجهود الاحتسابية، لأن المنطلقات الروحية تختلف عن المادية، والوسائل لا تبررها الغايات الميكافيلية، لأنها ربانية أخروية، ولا تدنس بلوثات السلوكيات غير الأخلاقية، ولا يمكن تدجينها وتهجينها بأي منهجية.

وهذه الصناعة تتميز بأنها سهلة، حيث إنها لا تحتاج لتخطيط أو ذكاء أو دهاء، أو براعة تنفيذ، فكل ما في الأمر أن يداس على المسلّمات ويُتجاهل الأخلاقيات ويعتدى على السلوكيات وتستباح الحقوقيات، ويُسعى في الأرض فساداً وإفساداً، وسيكون له من قرينه مبرر ومعين، فكل ضلال له تسويغات غير متناهية.

ولذا من يجيد فن تحييد الأعداء، فضلاً عن تلافي تفريخهم وتكثيرهم، مع محاولة استمالتهم وحسن معاملتهم، فهو نادر في هذا الزمان، ولا يخفى أن من مصارف الزكاة المؤلفة قلوبهم وليس المنفرة صدورهم، فصناعة الأعداء سهلة المنال، ولا تحتاج أكثر من حمق وسوء تصرف وعدم مبالاة، في حين أن فن صناعة الأصدقاء لا يجيده إلا العقلاء الحكماء المستنيرون بنور الكتاب والسنة.

فلو تأملنا قول الحق تبارك وتعالى: (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم)، فمن كان عدواً لك أو أنت معادٍ له أو أصبحت العداوة مشتركة بينكما فلمصلحتك أن تعامله بالتي هي أحسن، ليصبح كأنه وليّ لك لا عدواً عليك، لأنك بهذا لن تزيد عداوته وستحيّدها، وربما أضعفت من لأوائها، وقد تبلغ بحذقك أن تجرّده من عداوته، لتكفّ شرّه، وربما وصلت إلى حدّ جلب ولو بعض خيره.

ولكن عبر سلاطة اللسان ووقاحة البنان، وقلة الاحترام للغير والغرور بالذات والمكابرة بالنفس، سيُصنع كل يوم جملة من الأعداء، وربما يتطور الأمر إلى ابتكار أساليب جديدة لرفع الجودة في مستوى العداء، وتنويع دائرة الأعداء من كل الفئات والأجناس وتنمية إراداتهم العكسية، بما يعود على الطرف المقابل بالخسارة والمفسدة والضرر.

ومع جميع خطوط الإنتاج والوفرة في المخرجات والدقة في الإخراج، قد يخدع نفسه ويقنعها بأنه قضى على أعدائه وبكل سهولة، وكأنه بهذا يخدّر نفسه ويعزّيها، ويخدع من حوله ويستغفلهم، وما هو إلا حافر قبره بيديه، ويقطع خط رجعته، فلا طريقاً قطع ولا ظهراً أبقى، والقافلة سارت بالإبل، ولكنه ما برح يشبعها بالشتائم التي لم يسمعها سواه.

وفي نفس الوقت قد يجد رابطة المشجعين على المدرجات يصفقون ويهتفون بنصره وفتحه، وهو تحت هذه النشوة المغيّبة لعقله يزيد من إدخال الأهداف في مرماه وبكل ثقة ورزانة لا يساويها إلا تسابق فريقه لمزيد من كسب الوقت لصالح الفريق المقابل، ولن يجد عند انكشاف الهزيمة أي صعوبة أو حرج في إقناع أصحاب التطبيل بأنه قد حقق لهم الفتوحات الفلكية والانتصارات السرمدية، لأنهم لم يفقهوا بعدُ حقيقة الانتصار، وكأنه يريد منهم المزيد من الصفاقة والحماقة، والمزيد من الغرق في الوحل، وهكذا هو وهم منذ عقود تتوالى بلا زرع ولا حصاد.

ولذا فإنه من المعروف عند الشركات الكبرى تعاقدها مع بيوت الخبرة من خارج إطار القطاع لتقوم بدور الرقيب المقيّم المحايد الموضوعي، ليبيّن الخلل بلا مجاملة ولا مزايدة، ولذا يحتاج كل قائم بدور دعوي واحتسابي ألاّ يحكم بنفسه ليشبع غروره ويتشبّع بما لم يعط، وذلك لتكشف له تلك الخبرات أنه قد خدع نفسه وما حقق سوى الغوغاء والقلق مع كره الناس له والتندّر عليه.

وأما الأغلبية الصامتة فليست هي كذلك في كل حين، فيمكن معرفة رأيها بسهولة غير ممتنعة، فلا تحكم على من يجاملونك أو أنهم ضمن بيئتك الصغرى، وإنما أوسع نظرك إلى أبعد من بصرك لتحصل حينئذ على النتيجة الموفقة في الدنيا بلا أعداء وفي الآخرة بدعاء الأصدقاء.

وبعد هذه المقدمة المسترسلة التي تحمل في عمقها ووراء سطورها الكثير مما غاب عن ظاهرها، فأقول لهؤلاء: عليكم بمراجعة المسيرة، فالواقع هو الذي يحكم بالحقائق وليست الأحلام، وإذا لم يكف الواحد عن تلك السلوكيات المخالفة للأخلاق والآداب الإسلامية من باب الخوف من الله بمخالفة هديه، والحياء من الفطرة التي حشمت العلاقة بين الخلق، فلا أقل أن يكون العقل والمنفعة هي الدافعة والرافعة لواقع كئيب.

ومن المعروف أن العداوة ليست من المغانم، كما أن الصداقة ليست من المغارم، وبما أن المؤمن مرآة لأخيه، فيجب علينا أن نتراءى لبعضنا، ونبين وجوه القصور فيما بيننا، ونحدد نقاط الضعف لنقومها، ونُعيِّن نقاط القوة لننميها، ونكشف الأعراض السلبية لنتلافاها، والعلامات الإيجابية لنطورها، وهكذا نسير في الطريق الصحيح، مع التأكيد على أن جميع هذه الأخلاقيات العفيفة والسلوكيات الحكيمة مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فعلينا التعرف عليها والالتزام بها، لننجح في دنيانا ونفلح في آخرتنا.