رمى مفتاح الغرفة في وجه ممثل لجنة الإسكان في المؤتمر وهو يزبد ويشتم. خرج من باب الفندق وهو يكاد ينفجر غضبا قائلا: "أنا أستحق ما حدث لي. من المفترض ألا ألبي دعوتكم قبل أن أعرف أنكم حجزتم لي جناحا وليس غرفة".

أتذكر كلمات الأكاديمي السعودي تماما كما لو أنها خرجت من لسانه طازجة قبل لحظات. مر على هذه الحادثة عدة سنوات، لكنني أسترجعها دائما كلما تصفحت اهتمامنا بالشكليات على حساب الأساسيات.

خلال عملي في أكثر من منتدى ومؤتمر اكتشفت اهتماما فادحا بالقشور من إحدى أكثر شرائح المجتمع ثقافة ووعيا. لا أنسى عندما جاء أحد مديري الجامعات السعودية إلى الفندق الذي يحتضن المناسبة قبل بدايتها بثلاث ساعات. اعتقدنا أنه في موعد عمل، لكنه لم يكن كذلك. جاء لكي يظفر بمقعد يبتغيه في القاعة الرئيسة وفي صالة الطعام. كان يتفاوض مع المسؤولين عن القاعات على الكرسيين بحرص شديد. تمنيت لو أنه ادخر هذا الجهد في سبيل تنمية الجامعة التي يديرها.

ومرة أخرى اتصل عليّ سكرتير وكيل إحدى الجامعات السعودية يسألني بإلحاح عن نوع السيارة التي ستستقبل رئيسه في مطار جدة؟

في المقابل، كنت شاهدا على حوار جمع مدير جامعة كنديا حضر مؤتمرا في المملكة مع موظف الاستقبال. كان البروفيسور الكندي يتوسل الموظف أن يمنحه غرفة وليس جناحا. الموظف اعتذر بلباقة عن تلبية طلبه، كون الغرف كلها محجوزة وأن اللجنة المنظمة هي التي حجزت له هذا الجناح مبكرا. تابعت كيف سافر الكندي من شخص إلى آخر في لجنة الضيافة شاكرا حفاوتهم وراجيا أن ينقلوه إلى غرفة قائلا: "ماذا أفعل بجناح وأنا وحدي؟".

إذا كان بعض الأكاديميين الكبار لدينا تشغلهم الكراسي والأجنحة وأنواع السيارات فهل سننتظر فتوحات علمية وبحثية عظيمة؟ هل سننتظر مجتمعا متحفزا يكرس الوعي ويؤسس لبناء عقول كالعالم المتقدم وليس صروح أسمنتية قد تهوي في أي لحظة؟

إنها ليست جريرة الأكاديميين أن يتحول مجتمعنا إلى مادي ومظهري، لكن لا ننتظر منهم الانصباب في قالب الجماعة التي عززت هذه السطحية العارمة. ما فائدة الدراسة والسنوات التي أفنوها في القراءة والبحث إذا كانت هذه هي المحصلة؟ فدورهم يجب أن يكون قياديا نحو التغيير الإيجابي الذي ينعكس على العباد والبلاد.

من يراقبْ مجتمعنا حاليا يرَ انهيارا في قيم البساطة والتواضع والزهد التي كان يتسم بها ويتميز بها عن سائر العالمين ويرى ازدهارا في الاستعراض والنفاق و(الفشخرة)، فأعيادنا التي كنا ننتظرها بشغف كل عام أضحت مسرحا للاستنزاف والاستهلاك والتبذير. أضحت الكثير من العوائل تنفق آلاف الريالات في ملابس لا يتم ارتداؤها إلا ساعات قليلة. إنني أتساءل: كيف سيفرح الآباء بالعيد بعد أن أهدروا مدخراتهم فيما لا ينفع؟ العيد يجب أن يأتي ليرسم بسمة على الشفاه ويغسل أرواحنا لا أن يقطب جبيننا ويغسلنا بالهموم ويشغلنا بديون بطاقاتنا الائتمانية. إننا ندمر كل المعاني الجميلة ليس في العيد فحسب بل في مناسباتنا السعيدة بأسرها إثر المبالغة في الإنفاق واقتناء الماركات على حساب ظروفنا وإمكاناتنا وقيمنا.

السعادة الحقيقية ليست بارتداء أغلى الثياب أو ركوب أحدث السيارات أو السفر في الدرجة الأولى أو السكن في الأجنحة الفاخرة. يقول آدم خو (36 عاما)، أصغر مليونير في سنغافورة، إن السعادة المادية لا تدوم أبدا: "هي كالمخدر المؤقت أو الحل السريع. بعد حين تشعر بأنك تعيس مرة أخرى وفي حاجة إلى مخدر آخر، فتسعى لشراء السلعة التالية التي تعتقد أنها ستجعلك سعيدا". ويؤمن آدم أن سعادته تتحقق عندما يقرأ كتابا جديدا ممتعا أو عندما يشاهد أبناءه يتعلمون وينمون بسرعة. وينهى المفكر الأيرلندي، جورج برنارد شو، هو الآخر عن الملابس باهظة الثمن قائلا: "اللباس المُكلف يدل على ضعف عقلي".

ثمة مسؤولية يجب أن نعززها في الناشئـة والأجيـال الجديدة لندحر هـذا الغـزو المادي الـذي أشـاع الفقر وكرس الطبقية وحولنا إلى مجتمع استهلاكي بامتياز. مجتمع يعتني بالمظهر لا بالجوهر. مسؤوليتنا تتطلب أن نكون قدوة حسنة وأن نجعل هذا الجيل يتذوق ما يتحدث عنه آدم.. أن يطلعوا على كتـب جديدة ساحرة ومدهشة تجذبهم وتخاطب ذكاءهم واهتماماتهم.. وأن يتذوقوا برامج تعليمية شهية تشغلهم وتلهمهم. وإذا لم نوفر لأبنائنا وإخواننا، ذكورا وإناثا، هذه الفرص والبرامج فلا يجب أن نحزن إذا استفحل (الهياط) وغمر كل ما تبقى!