ليس أغرب من اعتذار توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عن الحرب على العراق، إلا اعتراف بول بريمر رئيس الإدارة الأميركية الأسبق في العراق، أو لنقل حاكم العراق الفعلي في فترة وجوده، عندما قال في مذكراته بشأن الفترة التي أمضاها حاكما للعراق: "عندما عقدت أول اجتماع مع قادة العراق، كنت خائفا وقلقا، وكنت جالسا على طرف الكرسي، وتوقعت أن يلوموني ويسألوني لماذا أوصلنا البلد إلى هذا الحد؟.. وإذا بهم يسألونني: أين رواتبنا ومستحقاتنا؟ حينها اتكأت على الكرسي وقلت: إن هؤلاء لا يستحقون أن يمثلوا شعبا، وأنهم سيندمون كثيرا على إطاحتنا بصدام حسين".

ولا أعرف حقا كيف خان السيد بريمر "ذكاؤه الأميركي"، ويفترض أنه أحد أجود أنواع الذكاء في العالم؟! كيف توقع من حكام قبلوا أن يدخلوا بلادهم على صهوة دبابة أميركية الصنع آتين من فنادق طهران عدو العراق والعرب التاريخي، وتحت حراسة المارينز الأميركي؛ أن يتحدثوا كما لو كانوا ثوارا أو مناضلين أو حتى مواطنين طبيعيين يهمهم أمر العراق أو يعنيه؟! هل كنتم تظنونهم معارضين بحق خرجوا من العراق ليمارسوا المعارضة والكفاح السياسي في فنادق العالم قبل أن تستدعيهم الإدارة الإيرانية لتوظفهم لديها في العراق؟! لا أظن أنكم تنخدعون بهذه السهولة يا سيد بريمر، فتجارب أسلافكم الغرب مع الخونة الذين باعوا مفاتيح حصون بلادهم لكم على مدار الحروب الصليبية، كفيلة بأن تجعلكم تدركون أنكم ما أتيتم إلى سدة الحكم في العراق إلا لبائعي حصون عكا الجدد. لا أشك في ذكائكم ودرايتكم بهذا الصنف من البشر يا سيد بريمر، كل ما في الأمر أنكم تنخدعون لهذا أو ذاك برغبتكم ولتحقيق أهداف بعينها، فلو كنتم تعلمون أنهم وطنيون بحق ويهمهم أمر العراق والعراقيين بحق ويألمون لألم العراقيين بحق، وسيحاسبونكم ويسائلونكم بحق؛ لما أتيتم بهم إلى مقاعد السلطة في العراق.

لا تتحدث عن الدهشة يا سيد بريمر، فأنتم أدرى الناس بحال موظفيكم في العراق. وكان الأولى بك أن تكون صادقا مع نفسك في مذكراتك، وألا تدعي الدهشة، فنحن من تحق لهم الدهشة من شأن إقدامكم على تدمير بلد وتشريد أهله وقتلهم بتلك الجرأة والفظاعة، وإمطاره بوابل من القذائف تفوق آثاره التدميرية على المكان والإنسان أضعاف ما ألقي على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، فقط من أجل تأمين إسرائيل بإشعال المنطقة كلها من حولها لإضعاف دولها، لتبقى إسرائيل قوة وحيدة في محيط من الدول الهزيلة الضعيفة. وكنا نتمنى لو أن القيادة العراقية آنذاك كانت أكثر فطنة وتريثا حتى تجنبنا وتجنب العراق هذا المآل الأسود. لكن ماذا نقول..

إن هذه الدهشة المفتعلة من السيد بريمر بشأن حكام العراق الجدد، تطرح بين أيدينا واقع كثير من مدعي الوطنية في كثير بلداننا العربية، ممن يتخذون من فنادق أوروبا والولايات المتحدة ميادين للنضال ومعارضة أنظمة الحكم في بلادهم، ويعيشون وهم يرتقبون اللحظة التي تسوء فيها الأمور ليعودوا من أجل جني ثمار سنوات الكفاح بين الاسبا والجاكوزي والبهو في الفنادق فئة الخمس نجوم والسبع نجوم، أو يبتسم لهم الحظ كما ابتسم للسادة حكام العراق الجدد، ويرزقون ما يحملهم على صهوة دباباته إلى مقاعد السلطة في بلادهم، بعدما تصبح أرضا خرابا كما حل بالعراق الجريح.

تجارة الأوطان هذه الأيام أصبحت تجارة رائجة تنافس تجارة المخدرات والسلاح في عوائدها، مع مخاطر محدودة، هذا إن كانت هناك مخاطر أصلا، فلا تحتاج إلى أكثر من أن تكون ناشطا سياسيا، ثم تطلب اللجوء في الخارج، وهنك سيتولى الجميع رعايتك، وستتحول كل فرية تفتريها تصريحا يتم تعميمه على جميع الصحف ووكالات الأنباء من قبل منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وسيصنعون منك بطلا قوميا، تكرم في المحافل، وتمنح الجوائز، ويكون لك متابعون بعشرات الآلاف تصدر لهم الأوهام وتبث ما شئت من الأكاذيب في عقولهم. لن يكلفك الأمر أكثر من عناء الاستحمام صباحا وتصفيف شعرك استعدادا للخروج لالتقاء هذه الوكالة أو تلك الجريدة أو هذه الجمعية لتدلي لها بما تيسر لك من أكاذيب عن وطنك، حتى توفر لهم مادة يملؤون بها تقاريرهم عن بلادك، حتى يتخذوا منها لاحقا مبررا لغزوها وتدميرها، وقد يسعدك الحظ أكثر، وتحظى بأثر من الحياة المجانية التي تعيشها منعما، فتنتقل للإقامة في القصر الرئاسي في بلادك، تجتمع بوزراء مثلك جميعهم آتون من فنادق العالم مثلك تماما، تتظاهرون بأنكم تتباحثون بشأن الخرائب التي كانت بالأمس وطنا كريما، لولا الخيانة!

اللهم احم ما تبقى من أوطان العرب.