لست مستعداً، ومثلي كثيرون من أبناء هذا الوطن، لأن أنجرف وراء أي ضجيج في هذا العالم، فمن شأن الضجيج أن يصم الآذان، ويعمي البصائر عن جوهر الحقيقة، فيجعل من العدو صديقاً، ومن الصديق عدواً، وتتحول أحاديثنا إلى حوارات طرشان، لا أحد يسمع أحداً، وقد نجد أنفسنا جميعاً في مصير يشمت بنا الأعداء.

أستغرب حقيقة كيف يتحول كل خلاف في وجهتي النظر بين بلادنا الغالية والشقيقة العزيزة مصر إلى تراشق إعلامي غير مبرر على الإطلاق، تراشق يغرد صناعه ومفتعلوه في الوسط الإعلامي من الجانبين خارج السرب، فمن المعروف والراسخ والثابت أن قيادتي البلدين تتعاطيان مع أي خلاف في وجهات النظر بينهما باحترام متبادل، وتقدير لظرف كل بلد ورؤية قيادته، وسيادة قراره الوطني، في جو من الحوار الهادئ الرزين الذي يليق بأشقاء، فإذا كان هذا موقف قيادتي البلدين دائماً، فلماذا تحرص أطراف بعينها من الجانبين على دق أسافين الوقيعة والنفخ في كل نار تلوح شرارة لها؟ هل يظن هؤلاء حقاً أنهم بهذا التراشق الإعلامي الذي يوغر صدور الشعبين كل منهما على الآخر يخدمون مصالح المملكة أو مصر؟ هل يظنون أن هذا الوابل من الإهانات المتبادلة يخدم أحداً في المنطقة سوى عدونا المشترك الذي يتربص بنا الدوائر؟ لا أتصور أبداً كيف يدفع هؤلاء بغوغائيتهم الجميع إلى حالة من الاحتقان بين بلدين نعلم جميعاً أن سقوط أي منهما، لا قدر الله، يعني انتهاء آخر أمل لهذه الأمة لتستجمع قواها، في ظل حالة الشرذمة والسقوط المتتالي لدول المنطقة الواحدة تلو الأخرى، العراق، فسورية، فليبيا، فاليمن؟ ألا يتعلم هؤلاء أبداً؟ هل كل ما يقدر عليه أحدهم أن يركض إلى غرفته ويشغل حاسوبه، ويبدأ كيل السخافات التي يدفع ثمنها الشعبان الشقيقان من رصيدهما الإنساني؟

نعم أسفنا جميعاً لموقف المندوب المصري في مجلس الأمن الذي لم يكن على مستوى تطلعاتنا وآمالنا في الشقيقة مصر، لكن هذا لا يعني في المقابل أن نتوقع من مصر أن تتوافق دائماً معنا في وجهات النظر، أو تكون تابعة لنا في قراراتها، والأهم من هذا وذاك أن نفهم أن مصر بموقفها هذا ليست في حالة عداء معنا، فلا يعدو الأمر أن يكون افتراقاً في وجهات النظر والحسابات السياسية لا أكثر،  ويبقى هذا في الأخير ملفاً من بين مئات الملفات التي نتفق فيها مع الأشقاء في مصر من أجل صالح البلدين، وهو في الأخير شأن سياسي دبلوماسي نثق في قدرة قيادتنا على إدارته بما يليق ببلدين كبيرين تربطهما علاقات تاريخية وإنسانية عميقة وعريقة، وتربطهما مئات المصالح المشتركة، ويملكان القدرة على الخطاب الدبلوماسي والسياسي الرفيع الذي يمكنهما من عبور مثل هذه المواقف بأمان، لكن أن يدخل هذا وذاك على خط الخلاف، ويستغل الموقف ويتطاول ويرغي ويزبد، فهذا أمر يدعو للأسف والاستياء، أن يصبح مصير العلاقات التاريخية بين الشعبين مرهوناً بأقلام جبلت على التطاول والعداء وافتعال الخصومات.

إن الاختلاف في وجهات النظر والمواقف بين الدول، لا يدار على هذا النحو أبداً. بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي، ولم يتجاوز الأمر سوى التداول حول آلية لهذا الخروج تضمن مصالح بقية دول الاتحاد، في أداء بالغ الرقي والتحضر، فلماذا نحن من دون الأمم لا نتطلع إلى هذا الأداء المتحضر، ونبادر دائماً بالتراشق وتبادل الاتهامات عند أي بادرة خلاف؟

أعلم أن لدينا في المملكة بعضاً من المتربصين بالإدارة المصرية تعاطفاً مع بعض أطياف المعارضة المصرية، أو انتماء لفكر هذه المعارضة، وأعلم أن هناك بعضاً من المتربصين بالمملكة في مصر أيضاً لخلافات وخصومات فكرية مع المملكة، ولا نحجر على فكر أحد، فكل منا حر فيما يعتنق من أفكار، لكن هذه الأفكار التي يعتنقها أي منا، والمواقف التي يتبناها، يجب في الأخير ألا تكون ضد مصلحة بلاده، فموقف أحدنا الرافض للإدارة المصرية أو تعاطفه مع بعض أطياف المعارضة المصرية لا ينبغي أن يعميه عن أن مصر تمثل عمقاً إستراتيجياً بالغ الأهمية لبلادنا، وفي المقابل لا ينبغي أن تعمي كراهية المملكة بصر أي صاحب موقف معادٍ لها في مصر عن أنها سند بلاده في التحديات الكبرى التي تواجهها. وشئنا أم أبينا جميعاً فبلدانا في سفينة واحدة تحاول التوازن والصمود في مواجهة موجات متتالية من أعنف العواصف التي تضرب المنطقة، وعلى كل منا أن يدرك أن آخر ما يحتاج إليه بلده أن يخرق خرقاً في جدار هذه السفينة، ومن لا يدرك هذه الحقائق ويظن أن بإمكان أي من البلدين أن تنفصل عن الأخرى في هذا المحيط السياسي الهائج فهو واهم، ومن يعلم أهمية كل بلد منهما للآخر ثم يواصل الدفع في خط الوقيعة بينهما فهو خائن.

إن المملكة ومصر بلدان لا يملكان ترف الخلاف في وقت تتوحد فيه جهود أعدائنا من أجل إسقاط البلدين وإغراقهما في طوفان الفوضى الذي ابتلع كثيراً من دول المنطقة، ويقيني أن قيادتي البلدين تعيان هذا تماماً، وتتصرفان انطلاقاً من هذا الوعي، بقي أن يعي كل منا نحن والأشقاء في مصر حين يهم بالخوض في هذا الشأن أنه سيكون مسؤولاً أمام الله عن كل حرف يكتبه إذا كان سبباً في وصول بلدينا إلى مصير من سبقونا إلى قاع الفوضى العارمة التي نشاهد من حولنا بقايا حطام الأوطان الطافية على سطحها.