منظمة الشفافيّة العالمية التي تعد أكبر منظمة غير حكوميّة لمكافحة الفساد تصرّح دائماً عند مشاركتها بالفعاليات أن أحد أسباب انتشار الفساد هو تلاشي الحس الأخلاقي عند النَّاس وانتشار الفتور العاطفي أو بالأحرى تجاهل مواجهة حالة التعاطف بداخلنا. إن أبسط تعريف للتعاطف هو أن تفهم مشاعر الشخص الآخر وحاجاته وآلامه وتدرك الحالة النفسية له. ويعلّل الباحثون أنّ الوعي الشخصي والاجتماعي هو أهم مقومات مهارة هذا الذكاء العاطفي، ومهارة التعاطف قد تكون الوحيدة في زمننا التي لا يمكنك الاستعانة بمصادر خارجيّة للقيام بها عنك ويستحيل برمجتها.

من أعظم التحديات التي تواجه حاضرنا وتهدِّد مستقبلنا انتشار هذه الظاهرة من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالغير، وقد يرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل، اجتماعية وتربويّة، منها الجفاف العاطفي والتدليل المفرط الذي ينتج عنه الاتكاليّة الماديّة والعاطفيّة، وعدم وجود برامج أكاديميّة تحفُّز هذا الجانب المتجاهل بداخلنا. كل هذه الأمور التي تبدو بسيطة هي الأساس واللبنة الأولى فإن تجاهلناها ستقف في وجه تطورنا المحلّي والعالمي.

تقول دراسة حديثة إن السعودية الثانية عالميّاً في التعاطف مع القضايا الإنسانيّة، لا أشكك بذلك ولكنّه في بعض الأحيان غير ملموس في الخطاب اليومي بين أفراد المجتمع. ومع قرار إنشاء مجلس شؤون الأسرة الذي يهدف إلى تنمية الأسرة أتمنى أن يعطي المسؤولون اهتماما لهذا الموضوع ولا سيّما ظاهرة الخطاب التربوي الجاف المنتشرة في بلادنا. أيضاً يجب أن تكون هناك برامج تطبيقيّة مندرجة ضمن المناهج في المدارس تعزّز مهارة التعاطف التي ستحفّز المبادرات لخدمة المجتمع. ولا يجب أن نضلل الواقع ولو لم يعجبنا، بل من اللازم أن نستشعره ونشارك فيه لنبادر في تغييره ونقوم بتحسينه.

فمثلاً ضمن منهج كليّة الطب في جامعة كولومبيا بنيويورك، من متطلبات المنهج أن يقضي الطالب أسبوعا كاملا في المستشفى كأنه مريض حتى يعلم ما يشعر به مرضاه بعدما يتخرج ويمارس عمله كطبيب بصفة رسميّة، لأنهم لاحظوا أن المرضى يتحسنون بصورة أفضل عندما يكون الطبيب متعاطفا مع المريض والحالة.

يطول الحديث والأمثلة عديدة ولكي لا أتشعب أكثر في الموضوع، سأتحدّث عن حال بلادنا اليوم من منظور آخر، لا نعيشه فعليّاً ولكن كمجتمع دولي إنساني نحن جزء منه. تخيل معي كيف هو الواقع المرير حاليّاً في حلب، ونحن في ظل انشغالنا في حياتنا المليئة بالخيارات والرفاهيّة، لنتصوَّر لدقيقة واحدة فقط كأفراد لنا جانب إنساني ومجتمع دولي مسؤول؛ حال الأطفال والأسر المشردة في حلب وغيرها من بلاد العالم. بينما نحن نخطط للعطلة القادمة والمستقبل هم يعيشون في خوف مستمر واضطراب نتيجة أهوال الحرب وعدم الاستقرار، البعض لا مأوى له، والأطفال سلبت منهم براءتهم رغماً وإكراهاً فخسروا آباءهم وأمهاتهم جراء القصف والحروب التي لا علاقة لهم بها. نعم جميعنا يعلم ما يحدث، وما ذكرته من وصف لحالهم ليس بجديد، ولكن أقل حقوقهم علينا أن نعيش ونستذكر معهم ونشاركهم ولو لوهلة واقعهم ومأساتهم ومعاناتهم.

من لا يعرف بائعة الكبريت، هي قصة قصيرة ألفها الروائي الدنماركي، هانس كريستيان أندرسن. والذي يميّز هذه القصة أنها بالرغم من أنّها كُتبت منذ حوالي 200 عام إِلَّا أنّها لا ترتهن بتحيّز زماني أو مكاني أو فئة معيّنة بل تخاطب الإنسانيّة على مر الأزمنة. القصة التي أحزنت كل من قرأها على مر الأزمنة تحكي تفاصيل مأساة طفلة مشردّة تحاول المناداة على بيع الكبريت في ليلة رأس السُّنة الباردة، إِلَّا أنّ العابرين من حولها لم يبالوا بوجودها. وعندما اشتد البرد جلست الفتاة تأوي نفسها في زاوية وتشعل الأثقاب لتدفئ نفسها.

في حلب الآن يا ترى كم من الأطفال من بائعي الكبريت والتفاح والزهور وغيرها يجولون الشوارع عراة الرؤوس، حفاة الأقدام، يشكون معدة فارغة من الطعام في أغلب الأوقات. على قدر ما يصفعنا ويوجعنا واقع نهاية قصة بائعة الكبريت إلا أنه من الضروري إدراكه. تعلمون ما الأسوأ من نهاية القصة: أن أهل القرية في اليوم التالي عندما وجدوها مستلقية وحولها أعواد الثقاب ظنّوا أنّ بائعة الكبريت ماتت من شدّة البرد. لكن بائعة الكبريت يا جماعة ماتت حزناً لا بردا.