خلال الأولمبياد الأخير في ريو دي جانيرو فاز البريطاني المسلم محمد فرح بذهبية سباق 5 آلاف متر، ثم في مشهد لافت جداً بدأ بعد فوزه بالدوران حول الملعب بحثاً عن علم لبلاده يمكن لأحد الجماهير البريطانيين منحه إياه لرفعه احتفالاً بالفوز، لم يجد محمد فرح علماً على الفور وبدا متجهماً وهو يدور حول الملعب بحثاً عن العلم بين الجماهير، وحين وجده ورفعه عادت ابتسامة الفوز لوجهه. هذا المشهد يلخص الكثير حول المعنى السياسي خلف البطولات الرياضية الدولية، فهذه المسابقات تتحول من مجرد تنافس بين رياضيين جماعات وأفراد إلى تنافس بين الدول. رفع العلم في مثل هذه المنافسات ليس مجرد جائزة للاعب المشارك إنما جائزة لوطن هذا اللاعب، ووسيلة للتعبير عن الشعور القومي لكل دولة أمام الدول الأخرى. وفرحة انتصار أي لاعب تعد انتصارا لوطنه.

اختتم الأولمبياد الأخير -على سبيل المثال- دون تحقيق السعودية أي ميدالية على الإطلاق. اللجنة الأولمبية السعودية أصدرت بيانا على لسان رئيسها التنفيذي قبل الأولمبياد صرح فيه بأن التوقعات ستكون متواضعة في ريو 2016، حيث إن الإعداد والاستثمار في أبطال أولمبيين يحتاج فترات طويلة، وهو ما بدأت فيه الهيئة العامة للرياضة مؤخراً. ويعد مثل هذا البيان خطوة إيجابية للاعتراف بالمشكلة وسبل حلها، وهو ما يحسب للهيئة العامة للرياضة، لكن معضلة الرياضة السعودية لا تبدأ فقط من مشروع بناء رياضيين للتنافس على الذهب، وهو ما تجاوزته بعض الدول الخليجية الأخرى من خلال "استيراد" لاعبين أجانب ومنحهم الجنسيات للتنافس باسم الدولة. فالهدف من التنافس يتجاوز هذا الأمر لتصبح الرياضة انعكاسا حقيقيا لقوة الدولة وتقدمها، شأنها شأن كل مناحي الحياة في أي دولة تطمح أن تكون قطاعاتها متقدمة تعكس ما وصلت له. الرياضة السعودية إذن بحاجة إلى مشروع أكبر من بناء لاعبين ينافسون، هي بحاجة إلى مجتمع ينظر للرياضة على أنها جزء لا يتجزأ من هويتها كدولة متقدمة ومتحضرة، وهو مشروع يبدأ من جعل الرياضة في المدارس أساساً من أساسيات التعليم، ومن النوادي الرياضية في المدن مطلباً لا يقل أهمية عن المستشفيات والمدارس والصرف الصحي.

الأداء الرياضي لكل دولة هو انعكاس لعافية اقتصادها ومجتمعها. فعلى سبيل المثال، هناك ارتباط بين عدد الميداليات الأولمبية التي تحققها أي دولة ومستوى تقدمها الاقتصادي (ممثلا بناتجها القومي)، كمؤشر على أن الرياضة والتنمية متلازمتان يشير بعضهما لبعض. لقد كان التنافس سابقا على تحقيق أكبر عدد من الميداليات الذهبية في الأولمبياد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كانعكاس للصراع السياسي بين القطبيين العالميين في حينها، واليوم تحول هذا التنافس بين الولايات المتحدة والصين، كمؤشر آخر على التنافس بين الدولتين العظميين على الساحة السياسية العالمية.

في أولمبياد 1984 حققت الولايات المتحدة 37% من عدد الميداليات الذهبية، وكانت حصتها من الناتج القومي العالمي حوالي 35%، بينما في أولمبياد 2008 حققت 12% من عدد الميداليات الذهبية، وهو انخفاض يعكس انخفاض حصتها من الناتج القومي العالمي إلى حوالي 22% عام 2012. في المقابل، حققت الصين في أولمبياد 1984 نحو 7% من عدد الميداليات الذهبية، وكانت حصتها من الناتج العالمي حينذاك 2%، وفي عام 2008 حققت 17% من عدد الميداليات الذهبية، وهو ارتفاع يعكس ارتفاع حصتها من الناتج العالمي إلى 15% مع الألفية الجديدة.

إن مثل مؤشرات الارتباط هذه متعددة ويمكن النظر لها من عدة جوانب، فهناك مؤشرات على ارتباط عدد الميداليات بالقوة العسكرية، أو عدد الميداليات إلى عدد أفراد القوات المسلحة، أو النظر في مؤشرات تتعلق بالكفاءة الرياضية مثل عدد الميداليات كنسبة لعدد السكان أو كنسبة حتى لعدد الرياضيين المشاركين في كل دورة أولمبية. عندما حققت المملكة برونزية قفز الحواجز على الخيل في دورة الألعاب الأولمبية في لندن 2012 اعتبر متوسط كفاءتها ميدالية لكل 19 مشاركا، بينما كان معدل جامايكا ميدالية لكل 4 مشاركين والولايات المتحدة ميدالية لكل 5 مشاركين.

السعودية لم تحقق على مدى تاريخها الأولمبي (11 مشاركة) سوى ثلاث ميداليات فقط، فضية وبرونزية في سيدني 2000، وبرونزية في لندن 2012. بينما حققت إيران على سبيل المثال خلال تاريخ مشاركاتها في الأولمبياد الصيفية (16 مشاركة) عدد 68 ميدالية منها 18 ميدالية ذهبية، ورغم أن عدد مشاركات إيران أكثر من المملكة إلا أنها حققت في أولمبياد ريو الأخيرة 8 ميداليات (منها 3 ذهبيات). وأي ساحة تنافس ستظل في نهاية المطاف بأهمية ساحات التنافس الأخرى.

قصة الصعود الأولمبي للصين قد تكون درساً يمكن لنا الاستفادة منه، فالصين التي قاطعت الأولمبياد منذ عام 1956 لم تبدأ مشاركاتها الفعلية إلا في بداية الثمانينات، وبالتالي فعدد مشاركات الصين في الأولمبياد الصيفية أقل من المملكة (10 مشاركات)، ومع هذا حققت الصين المركز الثالث في عدد الميداليات الذهبية في سيدني 2000، والمركز الأول في أولمبياد بكين 2008، والمركز الثاني في كل من أولمبياد أثينا 2004، ولندن 2012 وريو 2016 بمجموع ميداليات بلغ 543 ميدالية (منها 227 ميدالية ذهبية). مجلس الدولة الصيني قام بتضمين الرياضة ضمن إستراتيجيتهم الوطنية، وتطمح الصين أن ترتفع حصة الرياضة في الناتج القومي الصيني بحلول عام 2025 من 0،6% إلى 1% على غرار بقية الدول المتقدمة.

النموذج الصيني أنسب لنا لأن مؤسسات الرياضة السعودية لا تزال مركزية، على العكس من مؤسسات الرياضة في دول الاقتصاد الحر. فالرياضة تظل جزءاً من الأداء الاقتصادي للدول، ومن ثم فهناك نموذجان اقتصاديان لتطوير الرياضة، الأول: النموذج الصاعد من أسفل إلى أعلى (bottom-up model) وهو المتبع في الدول الغربية، حيث ينمو الرياضيون في المدارس والنوادي بشكل فردي وبعد أن تصل موهبتهم لمرحلة متقدمة يتم إدراجهم في الفرق الوطنية. هذا النموذج يحتاج إلى مؤسسات لا مركزية لكي يتمكن الرياضيون من النمو والظهور بشكل فردي أولا. النموذج الثاني: الهابط من أعلى إلى أسفل (top-down model)، حيث تتحكم مؤسسات الدولة المركزية تنمية الرياضة والاستثمار في الرياضيين في وقت مبكر ثم رعايتهم إلى الوصول لمرحلة الاحتراف. الصين بحكم نظامها الاقتصادي اتبعت النموذج الثاني واليوم لديها ما يقارب من 200 ألف رياضي متفرغ تصرف الدولة على رواتبهم وتدريباتهم في 5000 مدرسة رياضية ضمن برنامج وطني متكامل ومؤسسي، وإستراتيجية واضحة تهدف للتركيز على الرياضات التي تملك فيها الصين ميزة تنافسية، إضافة إلى تطوير الرياضة النسائية (تعد الصين ورومانيا الدولتين الوحيدتين في العالم اللتين حققت النساء فيهما أكثر من 50% من عدد الميداليات).

لقد ظلت الرياضة لجيل كامل في المدارس السعودية مجرد حصة يلقي في المدرس كرة قدم "ليطقها الأطفال ويلحقوها"، واليوم نرى نتاج تأخرنا الرياضي ليس فقط في نتائج الأولمبياد، إنما في البنية الصحية والجسدية للسواد الأعظم من الشباب رجالا ونساء. وليس أمرّ من أن يقرأ المرء تعليقا انتشر على مجموعات الواتساب بعد اختتام الأولمبياد يقول: "في النهاية فاز الكفار في السباحة والرماية وركوب الخيل". الاستثمار في الرياضة مهما بلغ هو استثمار لا يمكن لأي شخص أن يجادل بأنه استثمار خاسر.