لا يجوز للكاتب أو المتكلم أو المغرّد أن يجعل من نفسه قاضيا ليحكم على الآخرين، ولكن كثيرا منهم يقوم بهذا الدور، وبشكل وموضوع غير شرعيين، إذ تجده يضع نفسه المالك للحق المطلق، والآخر هو القابل للجمع والطرح وحتى التقسيم، وتجد في المكتبات كثيرا من الإصدارات التي جعل صاحبها له الحق في تصويب هذا وتخطئة الآخر، على حسب رأيه واجتهاده وربما ذوقه.

والمشكلة تكبر حينما يضيف إلى كلامه الاستدلالات المقدسة التي لا يجوز الاستقواء بها لرأي شخصي بهذا التفرد.

كنت أقول في نفسي ولمن حولي: لماذا لا تكون لدينا في العالم العربي والإسلامي مراكز ناشطة للبحوث والدراسات في شتى احتياجاتنا الدينية والدنيوية، إذ نرى في الغرب كثيرا من هذه المراكز المتقدمة التي تبني نتائجها على دراسات علمية موضوعية، وتصبح محل التقدير والتنفيذ من أصحاب القرار، ولكن حينما فرحنا في وطننا العربي والإسلامي ببعض هذه المراكز المحدودة عددا وعدة؛ إذ بنا نرى أنها موجهة ومؤدلجة، ومقررة نتائجها قبل الشروع في بحوثها ودراساتها. وهنا نفرق بين الحياد والانحياز، فالحي هو الذي يخلق قناعاته بعقله، والميت هو الذي تخلق قناعاته عقله.

من المعروف أن الواجب على الباحث عن الحق أن يستدل ثم يعتقد، لا أن يعتقد ثم يستدل، ولذا لو سألنا أنفسنا عدة أسئلة منطقية لنصل بعدها إلى تشخيص حالنا اليوم: فكم مرة تغير رأينا حينما درسنا المسألة؟ وكم مرة تغير رأي أحد منا حينما تمت محاورته؟ بل وكم مرة التزمنا بموضوعية الحوار وآدابه؟ ولو نظرنا إلى البرامج الحوارية الفضائية الغربية للاحظنا مستوى المنطق والأخلاق، وإعطاء الحق للآخر، بأن يرى ما يعتقده صوابا، في حين أننا كمسلمين نحتفظ بتنظيرات ورقية ولسانية حول هذه المسلمات العلمية والأخلاقية، ولكن عند الممارسة الميدانية تخرج لنا حقائق الالتزامات الفكرية.

وسأعطي مثالا يدركه كثير من المثقفين، وهو أن بعض المنظّرين يرمي البعض الآخر بأنه مقرب من السلطة السياسية ويدافع عنها لا لأنه يعتقد صوابها، وإنما لمكاسب دنيوية بزعمه، في حين أننا لو رجعنا إلى الواقع لرأينا كثيرا ممن يتم رميهم بهذه التهمة من المخلصين لأفكارهم لا لمصالحهم، ويضحون للمصلحة العامة بلا مقابل، في حين لو رأينا الآخرين للاحظنا أنهم يوالون "الحزب - الجماعة" ويدافعون عنه، ويغلظون في ذلك، وهم في كثير من حالاتهم يعرفون أنهم على الباطل، ولكن المصالح الفردية المكتسبة من الانتماءات الحزبية تبرر لهم ذلك، والأسوأ حين يتم تجويز هذا الفعل بأنه قربة إلى الله، ولذلك يقل في زماننا وجود المستقلين عن انتماءاتهم الحزبية، ممن يملكون الشجاعة لمخالفة الانتماء عند حضور الذمة، وكان الله في عون المخالف بعد الشجاعة النادرة، حيث سيتم تسريحه لكونه من المشاغبين، في حين لا نجد الأنظمة السياسية غالبا تعامل مواطنيها بهذا الشكل، وإلا لامتلأت الشوارع بالمسرحين، وهنا مكمن المشكلة، حينما يكون الولاء للحزب مقدما على الولاء للحق والمجتمع والمصلحة العامة، فتجده حينما يتكلم ويكتب فلمصلحة الحزب وبتوجيهه، وحتى حينما يسكت فلمصلحته الشخصية، وإذا كان هذا المنهج الميكافيلي غير مستغرب في الأحزاب الدنيوية، فيكون جريمة دنيوية وكبيرة أخروية عندما يصدر عن الأحزاب الدينية.

أسوأ ما أراه في حياتنا العربية التناقض بين القول والفعل، والغريب في الأمر أن كثيرا من الإسلاميين يركز على مصطلح النفاق، ويوزع التهم على الآخرين بأنهم من المنافقين، وذلك لمجرد أنهم خالفوا رأيه أو ساروا بعكس مصالح حزبه، ولكن عندما نتحقق من النفاق الحقيقي نجده في مسلك بعض هؤلاء القوم الذين خالف قولهم فعلهم، وخالف نظرهم تطبيقهم، ولذا من المعروف التفريق بين النفاق العملي والاعتقادي، والاعتقاد من البواطن التي لا يعلمها إلا الله، ولكن الظاهر يراه الجميع ويعيه العقلاء في الأمة.

وحتى لا أكون مبالغا، لو سألت الكثير من القراء: كم هي الكتب والتغريدات التي قرأتها لتستفيد منها لا أن تعيب وتستعيب؟ وهل هي من الموافقة لرأيك أم من المخالفة لتوجهاتك؟ وهل لديك قرارات مسبقة للقراءة بحيث لن تقبل إلا ما سبق لك القناعة به ولن ترد إلا ما سبق لك النفور عنه؟ والأهم من هذه الأسئلة كلها: كم مرة غيّرنا آراءنا بعد قراءاتنا؟ وهل لدينا القناعة بقابلية التغيير الذاتي والتطوير المعرفي لثقافتنا؟ أم أننا قررنا سلفا كل آرائنا وتوجهاتنا؟ ومن المسلّم به أن الثوابت ليست مكانا للتغيير، ولكن كم نسبة الثوابت من المتغيرات، وكم نسبة الدينيات من الدنيويات التي هي في دائرة المباحات؟!

كثيرا ما يتم تضليل العموم لأجل البقاء في مربعاتهم التقليدية، وما إن يخرج منهم عاقل متميز يبادر بجهود ذاتية للمعرفة الحقيقية والتنمية الفكرية حتى يبدأ النيل منه.

إن التضليل الفكري اليوم الزاعم بتملك الحقيقة المطلقة، والنيل من الحقيقة الغائبة، لهو المتسبب في تخلفنا الفكري الذي أخرج لنا التخلف الميداني، ومن خطأ الفكر إلى خطيئة الفعل، ومن جنحة الرأي إلى جريمة التبرير التي جعلت البلاد العربية مجتمعة لا تساوي بعض الناتج الاقتصادي لواحدة من الدول غير المستلقية على آبار من النفط، وإنما قائمة على أيدي رجال يفكرون بعقولهم ويعملون لزمانهم، مع احترامهم ثوابتهم وتمسكهم بمبادئهم ومحافظتهم على قيمهم وحتى عاداتهم وتقاليدهم.

وإذا كان الفعل الخاطئ جريمة، فإن الجريمة الأشد والمصيبة الأعظم حينما نبرر هذا الفعل والتخلف عبر "التضليل الفكري".