ما تمر به المملكة اليوم من أزمة اقتصادية ليس جديداً، سنوات الأزمة الاقتصادية منتصف الثمانينات مشابهة إلى حد كبير وإن كانت الأزمة اليوم أعمق لعدة أسباب، أهمها أن عدد السعوديين تضاعف مرتين منذ تلك السنوات، وأن سعر برميل النفط اليوم أقل من سابقه في ذلك العهد باحتساب معدل التضخم.

 لكن من اللافت أن نرى المملكة تمر اليوم بذات الأزمة التي مرت بها سواء في عهد النفط أو حتى ما قبل عهد النفط، فقد أورد الكاتب محمود صباغ في مقالتين له بصحيفة عكاظ بتاريخ 8 و15 مايو 2016 تحت عنوان: "كيف تجاوزت السعودية أزمة الكساد العظيم" ملخصا لما مرت به المملكة خلال فترة الكساد العالمي بين عامي 1929 و1935، وكيف عملت على تجاوزه، ومن اللافت أن تلك المرحلة التي كانت في غاية السوء علينا اقتصادياً رادفتها حرب لنا مع اليمن، وكان أحد أوجه التعامل معها هو أيضاً الاقتطاع من الموظفين، حيث قام وزير المالية عبدالله السليمان بسبب عجز الحكومة عن دفع المرتبات باقتطاع ثلث الراتب كقرض إلزامي للدولة يتم تسديده بعد حين. في كلتا المرحلتين التاريخيتين نبعت الأزمة من انخفاض الدخل بشكل حاد، الأولى بسبب تضاؤل أعداد الحجاج (المصدر الأول للدخل)، والثانية بسبب انخفاض أسعار النفط (المصدر الأول للدخل). اليوم نقترب من مرور مئة عام على أولى تلك الدورات الاقتصادية وبأمل أن تكون رؤية 2030 بداية لمسار مغاير تماماً عما بدأته المملكة في 1930 من إجراءات ترشيدية صارمة، وكذلك مسار مغاير بمنظومة إصلاحات اقتصادية تعمل على معالجة الخلل البنيوي في اقتصادنا، لا مجرد معالجة مشكلة الموازنة المالية التي تطل برأسها بين حين وآخر.

منذ بداية العام والحديث عن الأزمة الاقتصادية يتصدر المشهد. ما ذكره نائب وزير الاقتصاد محمد التويجري عن إفلاس المملكة خلال ثلاث سنوات هو في واقع الأمر ما ذكره الوزير محمد آل الشيخ في حوار الأمير محمد بن سلمان مع بلومبيرج في 21 أبريل 2016، وإن كان لم يستخدم لفظة الإفلاس، وإنما لفظة (insolvent)، أي "عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات"، وهي لفظة تقع في المنطقة الرمادية للتعبير الاقتصادي، وتعني بشكل غير مباشر "الإفلاس"، وأكد أن المملكة تسعى إلى موازنة ميزانيتها بحلول عام 2020، وذلك من خلال توفير ما يقارب 100 مليار دولار من مصادر غير نفطية. هذا المبلغ ستسعى المملكة إلى توفيره إما عن طريق رفع الدعم والاقتطاع من النفقات (مثلما حدث)، ومن خلال فرض مزيد من الضرائب (مثل ضريبة القيمة المضافة المزمعة)، إضافة إلى مصادر أخرى كالخصخصة وتنمية القطاع الخاص لترتفع نسبة مشاركته في الناتج القومي. لكن أساس الخطة الاقتصادية التي نراها اليوم هو "الترشيد"، فنحن دخلنا مرحلة حادة من تقليص النفقات، وهو مكمن الاختلاف الواقع اليوم، والذي تجلى في حلقتي برنامج الثامنة لداود الشريان اللتين طرحت فيهما وجهة نظر الحكومة ووجهة النظر المخالفة للاقتصاديين.

كتب الباحث الاقتصادي زياد داود في مدونته مقالاً بتاريخ 11 أبريل 2016 تحت عنوان: "الخطة المالية السعودية أكثر تقشفاً من اليونان"، حيث أوضح أن الميزانية السعودية شهدت انقلاباً من فائض بنسبة 6% من حجم الناتج القومي عام 2013 إلى عجز بنسبة 15% من الناتج القومي عام 2015، وهو عجز كبير يستلزم المعالجة. لكنه يوضح أن موازنة الميزانية بحلول 2020 كما أُعلن سيعني أننا بصدد خطة أكثر تقشفاً من التي طبقتها اليونان إبان أزمتها، فاليونان خفضت عجز ميزانيتها من 15% للناتج القومي في 2009 إلى 4% عام 2015، بينما تطمح المملكة إلى نسبة صفر% لنفس المدة، وبريطانيا كذلك لم تستطع تخفيض عجزها إلا بنسبة مشابهة، من 13% من الناتج القومي عام 2009 إلى 4% عام 2014. وفي كلتا الحالتين ترتب على خطتي التقشف العديد من التأثيرات الاقتصادية، أهمها الركود الاقتصادي الكبير مثل الذي واجهته اليونان. وعلى العكس منها فإن الظروف التي تمر بها المملكة أصعب حيث إن كلا من اليونان وبريطانيا عملتا خلال تلك المدة على خفض نسبة الفائدة لتحفيز الاقتصاد، بينما نحن في المملكة ونظراً للارتباط بالدولار سنضطر لمواءمة سعر الفائدة مع السعر الأميركي الذي يرتفع (وهو ما حدث)، مما يعني أننا نفقد آلية أخرى لتحفيز السوق والقطاع الخاص للمساهمة في العمل والنمو.

إننا من خلال القرارات المطروحة نوجه عدة ضربات متتالية للاقتصاد، فالقطاع الخاص الذي يأمل منه المسؤولون أن يعمل ليسهم في النمو هو بالأساس قطاع عاجز نظراً للبنية الريعية للاقتصاد، واعتماده على الإنفاق الحكومي، فالقطاع الخاص ليس مستقلاً عن الإنفاق الحكومي، وإن أريد له ذلك فإن منظومة القوانين والمحفزات لا تزال قاصرة عن خلق البيئة التي يمكن له فيها أن ينتعش بشكل مستقل عن إنفاق الحكومة. من جهة أخرى فإن سحب جزء كبير من السيولة الموجودة في السوق من خلال الرواتب (وهي أيضاً إنفاق حكومي يحرك الاقتصاد) إضافة إلى ارتفاع نسبة ديون المواطنين يدفع نحو ركود عميق سوف يستمر مع خطة التقشف وإضافة الضرائب الجديدة. إن الخلل الأساس في الاقتصاد السعودي أنه اقتصاد ريعي يعتمد على دخل سلعة واحدة يشكل الإنفاق الحكومي الوارد منها محركاً للاقتصاد ككل، ومن ثم كان لابد من النظر نحو مسألة معالجة الخلل مع استمرار جزء من الإنفاق الحكومي، بحيث تتم عملية الإصلاح التي تساعد القطاع الخاص على النهوض وأخذ حصة أكبر دون التقشف في الإنفاق دفعة واحدة، خاصة أن نسبة الدين للناتج القومي لا تتعدى 10%، مما يعطينا مساحة كبيرة للاقتراض والإنفاق، وبالتالي التقشف تدريجياً بالتزامن مع الإصلاح المطلوب.

إن نصيحة الخبراء والمستشارين الأجانب هي تطبيق لنظريات الكتب الاقتصادية دون اعتبار للاختلافات البنيوية بين اقتصادنا واقتصادات الدول الغربية، فوصفة "إجماع واشنطن" (Washington Consensus) التي يحلو لهم تقديمها، وتتضمن 10 نقاط (نطبق عددا من بنودها اليوم) هي وصفة لم تثبت نجاحها مع الدول التي طبقتها، بل تسببت في بعض الأحيان في مضاعفات سلبية على البعض، والدول الغربية صاحبة هذه الوصفة هي أول من تخلى عنها عندما ضربتها الأزمات، مثل ما قامت به الولايات المتحدة بعد أزمة 2008. ومن ثم قد يكون من الجدير أن ننظر إلى وضعنا دون اعتبار الوصفات الجاهزة الأشبه بمقاس ملابس يلائم الجميع (one size fits all). أزمتنا ليست مالية بقدر ما هي اقتصادية، والمعالجة من ثم لا يجب أن تكون مالية بحتة، فالتقشف الذي نحن بصدده سوف يعالج الدفاتر محاسبياً، ولكنه سيضاعف من تباطؤ الاقتصاد، وستكون له آثار جانبية اقتصادية واجتماعية متعددة. إن عملية "شد الحزام" مطلوبة ولا إنكار أنه كان هناك هدر مالي في مناح متعددة، لكن الوصول إلى موازنة الميزانية بحلول 2020 سيكون صعب التطبيق. الاستمرار فيما كنا فيه غير صحي، وقرار الحكومة بمعالجته خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن هل الترشيد الكبير في المقابل هو الحل؟