الأمن الغذائي والمائي شغل العالم الشاغل هذه الآونة في ظل تقديرات مزعجة بشأن مستقبل الماء والغذاء في العالم، وإذا كان العالم الزاخر بالأنهار لديه تخوفات بشأن مستقبله المائي والغذائي، فما بالكم بحال هذا المستقبل في بلدنا الصحراوي المكتنز جفافا وشحا في المنتجات الزراعية. ما من شك في أنه ينبغي علينا أن نشارك العالم قلقه بشأن أهم موردين للحياة والبقاء على ظهر هذا الكوكب، ولا يليق بنا أبدا أن نستسلم لهذه السعادة الزائفة التي تملؤنا فجأة ونحن ننظر إلى الخضراوات والفاكهة والحبوب وغيرها من الثمار التي تمتلئ بها أسواقنا، فعلينا أن نتذكر دائما أنها منتجات دول أخرى تأتينا محمولة برا وبحرا وجوا، وأن ظروفا كثيرة قد تحول دون بيعها لنا. أما بخصوص تجربة الزراعة المحلية فقد أثبتت التجربة ليس فشلها وحسب، بل جنايتها الكبرى على مخزوننا المائي، إذ قدرت مصادر متخصصة إبان هذه التجربة أن الاستهلاك الزراعي للموارد المائية في بلادنا تجاوز حاجز الـ85% من مجمل أوجه الاستهلاك المائي في جميع القطاعات في البلاد، استنزفت فيه زراعة القمح في البلاد كميات كبيرة من المياه، وحينها أيضا أصدرت الحكومة السعودية قرارا يقضي بالتوقف التدريجي عن شراء منتجات القمح المحلية، والتحول الكامل لاستيراده من الخارج بحلول عام 2016، من أجل تقليل زراعة القمح في البلاد، وذلك بموجب خطة وطنية لتوفير المياه، عبر خفض المشتريات الحكومية من القمح من المزارعين المحليين بنسبة 12.5% سنويا لمدة 8 أعوام، بهدف ترشيد استهلاك المياه وتنظيم استخدامها في المجالات الزراعية، نظرا لمحدودية وشح الموارد المائية في السعودية، لكن اكتشاف الحكومة هذه الأزمة جاء بعد استنزاف مليارات الأمتار المكعبة من مخزون مياهنا الجوفية، ففي عام 2003 صدر تقرير بأن السعودية تستهلك سنويا 6.34 تريليونات جالون من المياه في الزراعة، وأن ثلث هذه الكمية فقط هو الذي يعوض من خلال الأمطار، أما الثلثان الآخران فيختفيان دون أثر، وكانت الصدمة المدوية في ذاك العام مقارنة بين إحصاء يعود إلى عام 1984 قدر احتياطات البلاد من المياه الجوفية بـ132 تريليون جالون، بمعدلات الاستهلاك في عام 2003 كانت نتيجتها أن نصف تلك الكمية قد اختفت. ولعلي أسوق هنا تصريحا لوزير المياه والكهرباء السابق الدكتور. عبدالرحمن الحصين قال فيه إن "استهلاكنا 20 بليون متر مكعب في العام لكافة الاستخدامات، وهذه الكمية تعادل 40% من جريان نهر النيل في مصر، كما تعادل جريان نهر الراين في ألمانيا، وتعادل إنتاج التحلية 16 عاما، يوميا نستهلك مليونين و800 ألف صهريج ماء، وأغلبها مياه غير متجددة، 90% استهلاك زراعي، وتكلفة الـ10% للمنازل تكلفتها عالية جدا وتتطلب جهدا جهيدا لتأمينها، بعكس مياه الزراعة التي تتطلب حفر بئر فقط، في الـ35 عاما الماضية استهلكنا قرابة 574 بليون متر مكعب من المياه، وهي تعادل إنتاج التحلية بطاقتها القصوى لمدة 500 عام".

هذا جانب من الإحصاءات المخيفة بشأن مستقبل الثروة المائية في بلادنا، لذا علينا خوض هذه التجربة برفق، وأن نستغني قدر الإمكان عن تجربة الزراعة في الداخل، لأنها تقضي على ما تبقى من مخزوننا المائي، ولا يعني ذلك على الإطلاق أن نعيش على شراء احتياجاتنا من المنتجات الزراعية، فهذا أيضا يعني أن مستقبل الأمن الغذائي في بلادنا في خطر، والحل متاح وجد يسير وفي متناول أيدينا، في ظل توافر ملايين الأفدنة الزراعية التي تنادينا للاستثمار في زراعتها في دولة السودان الشقيقة، التي ترحب بنا دون غيرنا للاستثمار الزراعي في أراضيها، في تربة عالية الخصوبة، وفي ظل وفرة مائية كبيرة لمياه النيل، وبين شعب طيب يعيش بيننا هنا في بلادنا وخبرتنا معهم كشفت عن تقارب إنساني بالغ بيننا وبينهم، فالجميع هنا يحبون الأشقاء السودانيين ويشعرون بارتياح كبير في التعامل معهم، فما الذي يمنعنا من أن نتوسع في الاستثمار الزراعي في السودان الشقيق.

أعلم أن هناك تجارب قائمة، فضلا عن أن نقل مزروعاتنا من السودان إلى المملكة منخفض التكلفة، فلا يفصلنا عنه سوى عرض البحر الأحمر البالغ 100 كيلومتر، لذلك أناشد الإخوة مسؤولي وزارة الزراعة وأصحاب رؤوس الأموال الاتجاه صوب السودان لاغتنام الفرصة المتاحة الآن أمام الجميع، ووضع قدمنا في هذا البلد الشقيق قبل الجميع، للفوز بأفضل الفرص الاستثمارية فيه في مجالات الزراعة والتصنيع الزراعي والصناعات الغذائية قبل فوات الأوان، فكم ضيعنا من فرص كثيرة، تماما مثل ما ضيعنا من مخزوننا المائي، فالأمل معقود ألا تضيع هذه الفرصة أيضا، فبوسعنا الاكتفاء الذاتي من جميع ما نحتاجه من منتجات زراعية استراتيجية، ومن دون أن يكون هذا الاكتفاء على حساب نضوب مخزوننا من المياه الجوفية، فضلا عن أن التوسع في هذه التجربة من شأنه أن يترك لدينا فائضا من المنتجات الزراعية بوسع المستثمر أن يبيعه بالأسواق، فهل يعلم القارئ الكريم أن دولة مثل مصر الشقيقة تستورد القمح عبر مناقصات من جميع دول العالم، وهذا يعني أن بوسعنا إذا نجحنا في إنتاج سلعة مثل القمح أن نغطي احتياج المنطقة العربية منها، فنكون قد اكتفينا، وغطينا احتياجات جميع الأشقاء العرب، وعلينا أن نتذكر دائما أن من لا يملك غذاءه لا يملك استقلاله. فهل نحن فاعلون؟